الأحكام الشرعية للصوم وفق المذهب المالكي – الجزء الأول
المبحث الأول: صوم رمضان
يتعلق بهذا المبحث سؤالان
1 – ما حكم صيام رمضان؟
2 – كيف يُعلم بدخول رمضان؟
بالنسبة للسؤال الأول فإن الفقهاء اتفقوا على أن الله تعالى فرض على عباده صيام شهر في السنة هو شهر رمضان، واستدلوا على ذلك بصريح القرآن الكريم: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وبما رواه مالك وأصحاب السنن في قصة الرجل الذي جاء يسأل عما فرض الله عليه فكان مما قاله له النبي عليه السلام: ” صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ قَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ”، ووقع الإجماع على ذلك، ولا يمكن تحويله لغيره من الشهور .
أما كيفية العلم بدخول رمضان فإن المالكية يشترطون رؤية الهلال، أو شهادة عدلين اثنين، ويصام بإخبارهما، ولو رآه فرد واحد فهو ملزم بصومه، ويستحسن أن يعلم السلطة المكلفة بذلك ولا يجهر به لئلا يوقع فتنة بين الناس. وإن غُم الهلال يستكمل المسلمون عدة شعبان ثلاثين يوما ثم يصومون في اليوم الموالي. ولم ير المالكية اعتماد الحساب الفلكي لثبوت دخول رمضان قال البغدادي: “وللعلم بدخوله ثلاث طرق رؤية الهلال أو الشهادة بها من رجلين عدلين … وإكمال عدة شعبان ثلاثين عند تعذر ما ذكرناه، وليس من جهات العلم بدخوله قول منجم أو حاسب ” . وقد قال المالكية بمشروعية اعتماد رؤية كل بلد، وباعتماد إعلان بداية رمضان ونهايته من طرف السلطة المكلفة بذلك.
المبحث الثاني: النية وأحكامها
يتعلق بهذا المبحث الأسئلة التالية:
1 – ما حكم النية؟
2 – متى تكون؟
3 – ما حكم من أصبح ولو ينو صياما؟
أما الجواب عن السؤال الأول والثاني فالنية شرط في كل العبادات عند المالكية فرضها ونفلها، وتكون قبل الفجر من يوم الصيام، وإن نوى صيام رمضان عند أول ليلة منه أجزأه ذلك، ولا يحتاج لتكرارها في كل ليلة. قال القيرواني:” ويُبيت الصيام في أوله، وليس عليه البَيَات في بقيته”، وإذا لم تثبت الرؤية بسبب الغيم، وأصبح الإنسان وقد نوى صيام تطوع أو نذر ثم علم بثبوت رمضان فلا يجزؤه عن رمضان، بل يقضي ذلك اليوم.
وأما من أصبح ولم يأكل شيئا فلا يجوز له إنشاء الصوم سواء كان فرضا أو نفلا لغياب النية في وقتها، وأجاز الشافعية إنشاء الصوم في النفل ولو عقد النية بعد الفجر . قال البغدادي: “. فإن طلع الفجر ولم ينو لم يصح منه صوم ذلك اليوم بنية يوقعها بعد الفجر ولهفي شهر رمضان أن يجمعه بنية واحدة ما لم يقطعه فيلزمه استئناف النية. “
المبحث الثالث: الصوم حقيقته وحكمه وشروطه
يتعلق بهذا المبحث الأسئلة التالية:
1 – ما الصوم؟ وما الإمساك المطلوب؟
2 – ما حكم الصوم؟ ومتى يؤمر به الصغير ؟
3 – من هم الذين يطيقون الصوم؟ وما حكمهم؟
الجواب عن السؤال الأول:
أما حقيقة الصوم لغة فهي الإمساك أي الكف عن أي شيء ، قال تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] إي إمساكا عن الكلام. أما حقيقته الشرعية فهي الإمساك مع النية عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. ومدار المفطرات عند المالكية على الجماع أي العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، ومقدماته بشهوة كالمباشرة وغيرها و التلذذ بذلك مع الإنزال أو بدونه، وإيصال المطعوم أو المشروب إلى الحلق، أو ما يصل للحلق ولو من طرق أخرى كالعين والأنف كالكحل للمرأة نهارا يصل للحلق والدهن يصل للحلق، ويدخل في ذلك وصول البخور التي يقصدها الإنسان أو الدخان، أو وصول ما يغدي للمعدة ولو من غير الحلق كالحقن وغيرها .
الجواب عن السؤال الثاني:
أما حكم صوم رمضان فهو الوجوب بشرط الإسلام والعقل والبلوغ ، ودليل ذلك من الكتاب والسنة والإجماع، ورخص الله تعالى بالإفطار لأصحاب الأعذار كالمرض والسفر على أن يقضوا بعد زوال العذر كما سيأتي لاحقا.
وقد جعل المالكية البلوغ من شروط الوجوب لا الأداء للصوم، فيصح صوم الصغير الذي يطيقه، ورأى الفقهاء عامة والمالكية على وجه الخصوص أن الصبي يؤمر بالتدريج بالعبادات إذا أطاقها. قال ابن أبي زيد:” فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمُوا مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، قَبْلَ بُلُوغِهِمْ ، لِيَأْتِيَ عَلَيْهِمْ الْبُلُوغُ، وَقَدْ تَمَكَّنَ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَسَكَنَتْ إلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ، وَأَنِسَتْ بِمَا يَعْمَلُونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ جَوَارِحُهُمْ” .
ويشهد لمشروعية واستحباب تدريب الصغار على الصوم ما رواه البخاري ومسلم عن الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ – رضي الله عنها – قَالَتْ: ” بَعَثَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – رُسُلَهُ غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ:”أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ، فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ، فَلْيَصُمْ، فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ قَالَتْ: فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ وفي رواية: (فَإِذَا سَأَلُونَا الطَّعَامَ،أَعْطَيْنَاهُمُ اللُّعْبَةَ تُلْهِيهِمْ حَتَّى يُتِمُّوا صَوْمَهُمْ) . والحديث بصيغة ” كنا” يدل على الرفع، وأن النبي عليه السلام لم ينكر عليهم بل أقرهم على ذلك.
الجواب عن السؤال الثالث:
اختلف الفقهاء والمفسرون في حقيقة من يطيقون الصيام، ثم في حكمهم، وهل الرخصة بإفطارهم محكمة أم هي منسوخة. وعدّ أبو بكر بن العربي قوله تعالى من سورة البقرة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [البقرة: 184] بيضة العُقر لما فيها من تأويلات واختلافات، ورجح أنها منسوخة.وروى شيخ المفسرين الطبري النسخ عن جماعة من الصحابة ورآه أعدل الأقوال، واختار القرطبي وفقهاء المالكية هذا الرأي. ورأوا أن لفظ ” يُطيقونه” وهي القراءة المتواترة يعني يقدرون عليه، وعلى هذا فمعنى الآية عندهم أن من كان مطيقا للصوم فهو مخير بين صومه، وبين الإفطار مقابل إطعام مسكين عن كل يوم أفطره لكن ذلك نسخ لاحقا. أما قراءة “يُطوّقونه” فهي قراءة شاذة وقد روي عن ابن عباس أن الآية محكمة وخاصة بالشيخ الكبيرة والمرأة الكبيرة لا يقويان على الصوم فيفطران ويفديان.
وأيا كان الخلاف فإن قوله تعالى من بعد ” وأن تصوموا خير لكم” يُفيد فرض الصوم على كل مكلف، إلا المريض والمسافر، أو العاجز غير القادر على صومه ككبار السن والمرأة الحامل والمرضع. قال ابن العربي: “وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : مَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا لَزِمَهُ الصَّوْمُ، وَمَنْ كَانَ مُسَافِرًا أَوْ مَرِيضًا فَلَا صَوْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا وَلَزِمَهُ الصَّوْمُ، وَأَرَادَ تَرْكَهُ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{ فمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } مُطْلَقًا. وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَرَّرَهُ، وَلَوْلَا تَجْدِيدُ الْفَرْضِ فِيهِ وَتَحْدِيدُهُ وَتَأْكِيدُهُ مَا كَانَ لِتَكْرَارِ ذَلِكَ فَائِدَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَهَذَا مُنْتَزَعٌ عَنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فَلْيُنْظَرْ فِيهِ ” .
إن المتأمل في آيات تشريع الصوم في سورة البقرة، وفيما ورد في السنة النبوية حول فريضة الصوم يلحظ التدرج في تشريعه. فقد ثبت أن النبي عليه السلام حين هاجر أُخبر أن اليهود يصومون عاشوراء فصامه وأمر بصيامه، فكان واجبا على الصحابة. ثم نزلت الآيات الأولى تُحبب الصوم للمسلمين وتأمرهم به، وتُؤنسهم بسبق الأمم السابقة إلى صيامه. وكان الصوم في بداية التشريع إمساكا من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فمن نام ولم يأكل عند الغروب لا يأكل بالليل ، وشق ذلك على الصحابة فكان التخفيف أولا بالتخيير لمن طاقه بين الصوم وبين الفدية، ثم ثانيا بفرض الصوم على كل من طاقه، مع جعل الليل كله مباحا للطعام والشراب وإتيان الأزواج لبعضهم إلى ما قبل طلوع الفجر هو الذي استقر عليه التشريع.
المبحث الرابع: مفسدات الصوم
الصوم كما سبق بيانه إمساك مخصوص في زمن مخصوص، فالصائم يمتنع عن الأكل والشرب وعن الجماع (العلاقة الجنسية) من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية العبادة. ومن ثم فإن مفاسده هي كل ما يناقض الإمساك المطلوب أو يلغي النية الواجبة. وتفصيل ذلك ومكملاته في الإجابة عن الأسئلة التالية:
1 – حكم الإخلال بما اشترط فيه من الإمساك؟
2 – ما حكم إنزال المني أو ماء المرأة خلال نهار الصيام؟
3 – ما حكم نزول دم الحيض أو النفاس يوم صيام المرأة؟
4 – حكم من أجبر على ترك الإمساك بالأكل أو الشرب أو غيره؟
5 – حكم من نسي وأكل أو شرب وهو صائم؟
6 – ما حكم القيء والقلس يغلب الصائم؟
الجواب عن السؤال الأول:
أما من فعل ما يناقض الإمساك المطلوب، أو ترك النية، أو رفضها أثناء صومه فقد عرّض صومه للفساد. قال البغدادي: ” فأما ما يفسد الصوم فثلاثة أنواع : أحدها : إعراؤه مما اشترط فعله فيه من النية والإمساك من غير مراعاة لصفة تركه من عمد أو سهو أو تفريط أو عذر أو تقصر في اجتهاد وذلك كترك النية عمدا أو سهوا أو خطأ أو خرم الإمساك عن شئ مما ذكرناه عمدا أو سهوا أو خطأ..” ولذلك أحكام من القضاء أو القضاء والكفارة ستأتي لاحقا.
الجواب عن السؤال الثاني:
أما الجواب على السؤال الثاني فيحتاج إلى تفصيل، فإذا كان الإنزال من خلال الجماع فهو فساد كبير للصوم كما سبق بيانه وله أحكام ستأتي، أما خروج المني أو ماء المرأة دون جماع فلا يخلو أن يكون المكلف هو المتسبب فيه من خلال المباشرة للزوجة أو النظر المسترسل فصومه فاسد في هذه الحالة، أما كان ذلك خلال النوم في نهار رمضان، أو لسبب آخر غير تعمد الإثارة الجنسية فإنه لا يفسد الصوم ولا يُنقضه وصوم المكلف صحيح.
الجواب عن السؤال الثالث
إذا نزل دم الحيض أو النفاس عند المرأة وهي صائمة فإن ذلك يفسد صومها، ويلزمها أن تأكل وتشرب وذلك من تيسير الشريعة، على أن تقضي ما أفطرته من أيام الحيض أو النفاس بعد رمضان. وقد ذكر البغدادي هذا النوع ضمن ما يكون من المفسدات عن غلبة قال:” ضرب منه لا يكون إلا كذلك فلا يصح وجوده إلا مفسدا للصوم وذلك كالحيض والنفاس المانعين من ابتدائه وقد يمنعان من استصحابه على وجه” .
الجواب عن السؤال الرابع :
أما الجواب عن هذا السؤال فيقال أن من أُجبر على ترك الإمساك من طرف غيره، سواء كان هذا الغير صاحب سلطة، أو طبيب، أو ظالم واضطر للاستجابة والإفطار فقد أفسد صومه. أما حكمه فيجب عليه القضاء .
الجواب عن السؤال الخامس.
أما بالنسبة للسؤال الخامس فإن الذي عليه المذهب المالكي أن من أكل أو شرب ناسيا فقد أفسد صومه، لكنه يتم صيام ذلك اليوم ويقضيه إن كان صوما واجبا. قال ابن عبد البر: ” وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا، فَقَالَ الثَّوْرِيُّ وبن أَبِي ذِئْبٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَدَاوُدُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَيَتِمُّ صَوْمَهُ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ التَّابِعِينَ، قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ” . ورأى المالكية قول النبي، – صلى الله عليه وسلم -، للسائل الذي نسي وأكل أو شرب وهو صائم: “الله أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ” أنه دال على نفي الإثم فقط لا سقوط القضاء قال ابن العربي:” صورة الصوم قد عدمت، وحقيقته بالأكل قد ذهبت، والشيء لا بقاء له مع ذهاب حقيقته” . لكن ابن العربي أنصف الشافعية وغيرهم ممن تمسك بعدم وجوب القضاء في حال ثبوت زيادة الدارقطني :” أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ وَلَا قَضَاءٌ عَلَيْكَ” وقال: “وهذه الزيادة إن صحَّت فالقول بها واجب” وقد صحح هذه الزيادة كثير من أهل العلم .
الجواب عن السؤال السادس حكم القيء أو القلس يغلب الصائم:
أما من استقاء عمدا فقد أفسد صومه وعليه القضاء، لكن من غلبه القيء فلا يضره ما لم يرجعه لمعدته ويدخل القلس في معنى القيء أيضا. قال ابن جزي: “أما الْقَيْء فَمن ذرعه لم يفْطر عِنْد الْجُمْهُور وَمن استقاء عَامِدًا فَعَلَيهِ الْقَضَاء وجوبا دون الْكَفَّارَة فِي الْمَشْهُور وَعند الْجُمْهُور من رَجَعَ إِلَى حلقه قيء أَو قلس بعد ظُهُوره على لِسَانه فَعَلَيهِ الْقَضَاء”