الأبعاد المختلفة للعدوان الصهيوني الأخير على غزة

خلافا لكل حروبها السابقة ضد قطاع غزة منذ عام 2008 والتي كانت تبدأ بعمليات عسكرية من جانب المنظمات الفلسطينية في القطاع يقوم الاحتلال الصهيوني على إثرها باستخدام أقصى درجات العنف في الرد عليها، فإن العدوان الذي بدأ في 5 غشت وانتهى بعد ثلاثة أيام باتفاق وقف إطلاق النار، لم يكن رداً على أي عمليات فلسطينية من جانب الحركتين الأهم (حماس والجهاد).

ويبدو السؤال الضروري هنا؛ لماذا قرر الاحتلال الصهيوني شن عدوانه ضد القطاع في هذا التوقيت؟، وما هي التداعيات المحتملة لهذا العدوان؟

لعبت أربعة عناصر رئيسية الدور الرئيسي في اتخاذ الاحتلال الصهيوني قرار البدء بالعمليات العسكرية ضد قطاع غزة، ويمكن تلخيص هذه العناصر وترتيبها وفق أهميتها على النحو التالي:

أولا: هيمنة الأمني على السياسي
تتعامل دولة الاحتلال الصهيوني منذ نشأتها عام 1948 على أنها دولة في حالة حرب مستمرة مع خصومها، ولم يساهم عقدها لاتفاقات سلام مع مصر والأردن في تقليل شعورها بالخطر، خاصة مع ظهور تحديات أمنية جديدة تمثلت في الحروب بالوكالة التي أدارتها إيران ضد الدولة العبرية بدعمها لمليشيا حزب الله في لبنان، وحركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين في غزة والضفة الغربية منذ تسعينات القرن الماضي.

ورغم ادعاء دولة الاحتلال بأنها دولة ديمقراطية يتسم نظامها السياسي بسيطرة المستوى القيادي السياسي على قرارات الحرب والسلام، ويخضع لقراراته المستويان الأمني والعسكري، إلا أن شعورها ك”دولة” و”مجتمع” بالخطر المستمر تسبب في عكس هذه المعادلة، بحيث أصبحت قرارات الحرب والسلام بيد المؤسستين الأمنية والعسكرية عمليا، فيما تراجعت قوة المستوى السياسي، خاصة في المواقف التي تتسم بظهور مخاطر أمنية شديدة، وهو ما حدث على سبيل المثال عشية حرب يونيو 1967.

و أظهرت الوثائق التي نشرت بعدها بسنوات طويلة، أن قيادات الجيش والأجهزة الأمنية ضغطت بقوة على رئيس الوزراء- في ذلك الوقت- ليفي اشكول لشن الحرب دون انتظار نتائج الجهود الدبلوماسية الدولية، التي كانت تسعى لمنع الحرب… باختصار يمكن القول إن البيئة السياسية الحالية في دولة الاحتلال (حكومة مؤقتة أو حكومة تصريف أعمال) تزيد عملياً من قوة المؤسستين العسكرية والأمنية بشكل غير مسبوق في اتخاذ القرارات الهامة في الدولة، وعلى الأخص في وجود يائير لبيد الذي يقود الحكومة المؤقتة، ولا يمتلك في تاريخه المهني أي خبرات أمنية أو عسكرية خلافاً لمعظم من تولوا منصب رئيس الحكومة من قبل.

ثانيا: فرصة الوقيعة بين حماس والجهاد
من المنطقي والمسلم به أن زرع الخلافات بين التنظيمات الفلسطينية، هو هدف جوهري للسياسة الصهيونية لدولة الاحتلال التي نجحت من قبل في دفع حركتي حماس وفتح لنسيان القضية الوطنية والتركيز على حسم الصراع المستمر بينهما على السلطة والنفوذ في غزة والضفة الغربية. وعلى ذلك، قرأت الأجهزة الأمنية للاحتلال بتمعن تطورات العلاقة بين حركتي حماس والجهاد على الأقل منذ استيلاء الأولى على قطاع غزة عام 2007 وطرد السلطة الفلسطينية منه.

فعلى الرغم من الأصل المشترك للحركتين من حيث انبثاقهما عن جماعة الإخوان المسلمين، فإن التنافس بينهما حول جذب المناصرين وتجنيدهم لا يمكن تجاهله كون الصراع المذهبي الذي يخفي مصالح متعارضة، هو سمة سائدة في الصراعات الدينية في التاريخ الإنساني عامة وتاريخ المسلمين في الوقت الراهن خاصة.

ولكن حتى هذا العامل لا يعول عليه الاحتلال كثيرا لأن الموقف الذي تتبناه التيارات الإسلامية منها على اختلاف مذاهبها وأيديولوجيتها، ينضح بالكراهية والعداء. وما يراهن عليه الاحتلا ل حقاً لإضعاف حماس والجهاد هو ما حدث ويحدث على أرض الواقع من أزمات بين الحركتين والتي تتصاعد حيناً وتخفت في أحيانٍ أخرى على خلفية المواجهات الممتدة مع قوات الاحتلال وسياسة حكم حركة حماس للقطاع منذ سيطرتها عليه.

بالنسبة لحركة حماس والتي أدركت بعد أربعة مواجهات كبرى مع الاحتلال في الفترة 2008-2021 محدودية قدراتها على إجبار إسرائيل على تغيير سياستها تجاه القضية الفلسطينية، فإن تكرار المواجهات المفتوحة معالاحتلال بات يهدد قدرتها على البقاء والاستمرار في حكم القطاع، ومن ثم تميل حماس حالياً للتوقف عن الاحتكاك بالاحتلال مقابل ضمان وصول الدعم المالي الذي تقدمه أطراف إقليمية لها بموافقة دولة الاحتلال.

كما لا تريد حماس أن يؤدي توسيع المواجهاتإلى حرمان قرابة ثلاثين ألف عامل فلسطيني يدخلون إلى الأراضي المحتلة يومياً من مصدر عيشهم هم وعائلاتهم، بما يفرض عليها أعباءً مالية لن تكون قادرة على مواجهتها.

أما حركة الجهاد، فقد كانت تسعى لاستمرار المواجهات مع الاحتلال مهما كانت تكلفتها على حماس والشعب الفلسطيني، وقد هاجم زعيم حركة الجهاد زياد النخالة حركة حماس العام الماضي، قائلاً أن “حماس لم تنتصر في هذه الحرب كما تدعي”، كما وصف علاقات حماس مع العالم بأنها “فارغة ولا جدوى منها”، رداً على ادعاء حماس بأنها أجبرت العديد من القوى الدولية والإقليمية على الاعتراف بشرعية المقاومة الفلسطينية وشرعية حماس نفسها.

في ظل هذه العلاقات المتوترة بين حماس والجهاد، ربما أرادت إسرائيل من بدء المواجهة الماثلة حالياً مع الجهاد أن تزيد من هوة العداء وانعدام الثقة بين التنظيمين، وهو ما عكسته تصريحات القيادات الصهيونية وقيادات الجهاد معاً. فوزير دفاع الاحتلال بيني غانتس قال أن “عمليات الجيش ستتركز على الجهاد الإسلامي”، فيما حذر بشكل غير مباشر حركة حماس بقوله أن “نطاق العمليات سيعتمد على رد تنظيم الجهاد”، وبمعنى آخر أراد غانتس أن تفهم حماس أن الحرب يمكن أن تتوسع وتطول مواقع عديدة في القطاع ما لم تقم حماس بمنع تنظيم الجهاد من إطلاق الصواريخ.

ثالثاً: إرباك إيران
يبدو أن استئناف المفاوضات بين إيران من جانب، والولايات المتحدة والدول الأربع الكبرى في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا من جانب آخر، قد لعب دوراً غير مباشر في إقدام الاحتلال الصهيونية على شن عدوانها ضد حركة الجهاد. فموقف تل ابيب الرافض للاتفاق النووي الذي وقعته الدول الست السابقة مع إيران، تأسس على عدة نقاط منها، أن الاتفاق لم يتناول ضرورة توقف إيران عن دعم الجماعات التي تراها تل ابيب “منظمات إرهابية”، مثل حزب الله وحركتي حماس والجهاد. وتوجيه ضرباتها إلى حركة الجهاد بالتزامن مع استئناف إيران التفاوض حول إحياء الاتفاق النووي، يمكن القول إنه ضغط على إيران التي تدعم جماعة الجهاد.

رابعاً: المنافسة الانتخابية 

يتجه الكيان الصهيوني لإجراء انتخابات عامة في نوفمبر المقبل، وفي هذا التوقيت وحتى موعد إجراء الانتخابات يحرص كل حزب من الأحزاب العبرية على مخاطبة الناخبين وفق الأولويات التي يتبنونها، وتعتبر المسألة الأمنية على رأس القضايا التي يهتم بها الناخب الإسرائيلي، خاصة في مدن الجنوب والوسط المعرضة للهجمات الصاروخية من جانب الفلسطينيين في قطاع غزة.

وعلى غرار المقولة الأمريكية الشهيرة “لكل رئيس حربه” والتي تعبر عن فكرة الربط بين شرعية من يسكن البيت الأبيض وبين الحرب التي يخوضها في الخارج ضد الدول أو الجماعات التي تهدد المصالح الأمريكية، فإن المقولة نفسها ربما تصدق على دولة الاحتلال بسبب التهديدات التي تروج أنها تتعرض لها.

ومن يعود لتاريخ الاحتلال، سيجد أن حرب 1948 هي من منحت ديفيد بن غوريون شرعيته التي مكنته من حكم الدولة لقرابة أحد عشر عاماً. وفي الاتجاه العكسي، كان الفشل في حروب أخرى سبباً من أسباب تقويض شعبية القادة الذين حظوا برضاء الرأى العام في فترات سابقة. وعلى سبيل المثال انهارت شعبية موشيه ديان بعد أن تلقى جيش الاحتلال في ظل قيادته هزيمة مذلة أمام مصر في حرب 1973، كما سقط إيهود باراك الذي تولى رئاسة الحكومة عام 1999 بعد أن عجز عن مواجهة انتفاضة الفلسطينيين الثانية عام 2001، وبالمثل سقط إيهود أولمرت الذي خلف شارون عام 2006 بسبب الإخفاق الكبير في حربه مع حزب الله.

في ظل تلك الخلفية التاريخية، يمكن القول إن عدوان الاحتلال الجديد على غزة قد يخدم التحالف المناوئ لزعيم المعارضة ورئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، إذا ما حقق دولة الاحتلال في ظل حكومة يائير لبيد الانتقالية انتصارا واضحا، أو قد يحدث التأثير العكسي بأن تقضي هذه المعارك في حالة إخفاق جيش الاحتلال فيها على فرص الزعيمين الأبرز في ذلك التحالف (يائير لبيد، وبيني غانتس) في البقاء في الحلبة السياسية مستقبلاً.

ومن المؤكد أن الحسابات السياسية لكل من لبيد وغانتس في لحظة اتخاذ قرار التصعيد ضد الجهاد، قد اشتملت على هذا البعد، مع التأكيد على أنه بعد ثانوي قياساً على الأسباب السياسية والأمنية الأكثر إلحاحاً وتأثيراً، والسابق ذكرها.

عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية- بتصرف

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى