إصلاح مدونة الأسرة بين ضغوط المنظمات الدولية واحترام الثوابت المرجعية

بينا في المقال السابق أن الخدمة الحقيقية التي تحتاجها الأسرة تتمثل ابتداء في ضمان وجودها واستقرارها وتوفير الاحتياجات الضرورية لها، والإسهام من مختلف المواقع المدنية والرسمية والإعلامية والقانونية والاقتصادية.. في توفير الظروف الملائمة لأداء أدوارها في التربية والتنشئة وحماية مكوناتها، ونحاول في هذه المقالة تفكيك المنطلقات المرجعية لعدد من الدعاوى التي تتعلق بإصلاح المدونة، والتي تحتكم في كثير منها للوثائق المرجعية “الغربية” في تناقض مع عدد من المقتضيات المرجعية الوطنية.

فقد جاء في آخر وثيقة دولية تتعلق بالملاحظات والتوصيات الختامية للجنة وضع المرأة التابعة لهيئة الأمم الصادر في يوليوز 2022 الموجهة للمغرب في إطار تنفيذ اتفاقية سيداو لرفع كل أشكال التمييز ضد المرأة.

توصيات تضمنت أزيد من خمسين نقطة أهمها الفقرة 24 و 40 والتي أوصت اللجنة بضرورة أن يقدم المغرب تقريرا عنها في أجل سنتين.

فالفقرة 24 من التقرير تتعلق بالقانون الجنائي، وتنص على إلغاء المادة 489 من القانون الجنائي والخاصة بإلغاء تجريم الشذوذ، والمادة 490 المتعلقة بإلغاء تجريم العلاقات الجنسية خارج مؤسسات الزواج.

حيث حثَّت اللجنة[1]الدولة الطرف على:

  • أ: اتخاذ التدابير اللازمة لإلغاء المادة 490 من قانون العقوبات، ولا سيما من أجل كفالة عدم تعرض النساء ضحايا العنف الجنساني لخطر توجيه الاتهام إليهن بموجب هذه المادة.
  • ب: اتخاذ الخطوات اللازمة لإلغاء المادة 489 من قانون العقوبات”

أما الفقرة 40 فهي تخص مدونة الأسرة، وتنص على إلغاء المادة 19 الخاصة بإعطاء الإذن بتزويج القاصرات في بعض الحالات الاستثنائية، وتدعو أيضا إلى إلغاء تعدد الزوجات، وإلى تعديل جميع الأحكام “التمييزية” بما فيها أحكام الطلاق والحضانة والميراث بالتشاور مع المجتمع المدني وخصوصا المنظمات النسائية.

إن جل هذه التوصيات تتعارض مع المنطلقات والثوابت المرجعية للأمة، ومع خصوصيات المجتمع الثقافية وسيادته التشريعية، وتفرض التخلي عن الخصوصية على حساب التوصيات الخارجية التي لا تراعي هذه الثوابت التي نصت عليها الوثيقة الدستورية وهي أسمى نص قانوني في وطننا حيث جاء في تصديرها على “أن الهوية المغربية تتميز بتبوئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء”، كما أن هذه الإملاءات تتعارض مع المقاصد الكبرى للتشريع في قضايا الأسرة والحكم المتعلقة بوظائفها.

فمسائل الأسرة فيها الثابت القطعي الذي لا اجتهاد فيه، وفيه المتغير المتحول الذي يخضع لمتغيرات الواقع وعادات الناس وأحوالهم ومصالحهم، وهو ما يلزم اعتماد آلية الاجتهاد وأدواته وقواعده من أهله.وقد فتحت المدونة الحالية هذا الباب في آخر مادة من موادها، وهي المادة 400 التي نصت على أن “ما لم يرد به نص في هذه المدونة يرجع فيه إلى المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف”[2]

وأكد ذلك نص الخطاب الملكي لعيد العرش 2022 والذي جاء فيه “ومن هنا، نحرص أن يتم ذلك، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية.”

أما المواثيق الدولية فتُحكم فيما لا يتعارض مع هذه الثوابت، ولا تسمو إلا في إطار مقتضياتها، وهي مسألة تضاربت فيها الأفهام، حيث نحى الفريق المنتصر للمواثيق الدولية إلى الاعتقاد أن هذه المواثيق الدولية تسمو على التشريعات الوطنية بنص الدستور الذي جاء فيه ” جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة.”[3]

وهو توجه انبثق عنه توصيات عن جهات رسمية تدعو إلى إعادة النظر في اجتهادات سبق وأن حسمت فيها قرارات ولجان ملكية[4]، مثل ما صدر في تقرير لجنة النموذج التنموي والذي أوصى ” بإعمــال فضائــل الاجتهاد فيمــا يخــص المفاهيــم الدينيــة بمــا يتماشــى مــع الســياق الحالــي وتطــورات المجتمــع”.

ودعت إلى خلق فضاء للنقـاش المجتمعـي والفقهي في بعـض القضايـا المجتمعيـة، “مـن قبيـل الإجهاض والوضـع القانوني للأمهات العازبـات وزواج القاصـرات والولاية القانونيـة علـى الأطفال، وذلـك بمشـاركة ممثلـي الهيئـات الدينية والفاعليـن المعنييـن بالمجتمـع المدنـي والخبـراء، علـى وجـه الخصـوص.”

واقترحت اللجنة لذلك:

” 1- مواصلـة نقـاش سـنة 2015 حـول الإجهاض بشـكل رصيـن وعلمـي لإعداد تشـريع يتسـم بالمرونـة وينـص علـى الأخلاقيات، يحتـرم التعاليـم الدينيـة السـمحة وحـق الجنين فـي الحيـاة والحفاظ علــى الصحــة البدنيــة والنفسـية للمــرأة.

 2 – إقــرار مســؤولية الأب فــي حالــة والدة طفــل خــارج إطــار الــزواج، اعتمــادا علــى التقنيــات والاختبارات الجينيــة)ADN)

3 – تدقيــق وتقييــد الســلطة الممنوحــة للقضــاة فيمــا يخـص الترخيـص بـزواج القاصـرات.

 4 – إعطـاء الولاية القانونيـة علـى الأطفال للوالديـن معـا. فـي إطـار هـذا النقـاش، وبخصـوص الإرث، يمكـن التفكيـر فـي ألا يكـون التعصيـب خيـارا تلقائيـا، وإنمـا دراسـة الإمكانية، فـي إطـار الهيئـات المؤهلـة، فـي أن يتـم إخضـاع تطبيقـه لتقديـر القضـاة، حسـب مقاربـة تأخـذ بعيـن الاعتبار كل حالـة علـى حـدة، ووفـق معاييـر تحيـل خصوصـا علـى دور القريـب، المطالـب بحـق العصبـة، فـي الاعتناء بالهالـك وحمايتـه قيـد حياتـه.”[5]

وهو النهج نفسه الذي حذا حذوه رأي المجلس الوطني لحقوق الإنسان في مذكرته على النموذج التنموي، والذي نص أنه “رغم الجهود المبذولة على مستوى ملاءمة التشريعات الوطنية مع المعايير الدولية ذات الصلة بالحق بالمساواة وعدم التمييز إلا أن واقع المساواة بين الجنسين في بلادنا لا يزال يعرف عدة صعوبات كما يبين ذلك تقرير الفجوة الجندرية العالمي الصادر سنة 2019 والذي بوأ المغرب المرتبة 137 من أصل 149 شملها التقرير”[6].

وفي رأيه على قانون محاربة العنف ضد النساء ذكر المجلس باتجاه الهيئات الأممية للمعاهدات المستمر إلى حث الدول على تحديد السن الأدنى للزواج في 18 سنة دون تمييز بين الفتيان والفتيات، ودعا إلى حذف المادتين 20 و 21 من مدونة الأسرة واللذان ينظمان زواج الفتى والفتاة دون سن الأهلية ” [7].

وهو ما انتصرت له مذكرة من أجل المساواة في الإرث لتنسيقية المناصفة، والذي جاء فيها أنه  ” لا خيار أمام المغرب سوى العمل على ملاءمة تشريعاته مع المواثيق الدولية التي جعلها الدستور تسمو على التشريعات الوطنية.”[8]

لكن التدقيق في نص الوثيقة الدستورية عبارة ونصا وإشارة بتعبير الأصوليين يؤكد أن التشريعات الأممية لا تسمو على التشريعات الوطنية إلا في نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية، فما عارض هذه الثوابت فلا سمو له، وما وافقها أو لم يعارضها فيسمو على التشريعات الوطنية الاجتهادية فور المصادقة عليها.

وعليه فكل التوصيات الصادرة عن الهيئات الأممية والمُستقوى بها من طرف بعض المؤسسات الوطني الرسمية وغير الرسمية لا تعلو عن المرجعيات الوطنية والثوابت المرجعية في التشريع.

وستحاول المقالات القادمة تفصيل القول في بعض القضايا الخلافية التي وردت في توصيات اللجان والهيئات الدولية والوطنية، وتحري المقصد الشرعي من الأحكام الثابتة والمتغيرة وحدود الاجتهاد في بعض منها.

د. محمد ابراهمي

عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح

 

***

[1]: الأمم المتحدة، اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، الملاحظات الختامية بشأن التقرير الجامع للتقريرين الدوريين الخامس والسادس للمغرب، يوليوز 2022، ص: 08.

[2]: وزارة العدل، مدونة الأسرة المغربية، ص:87,

[3]: دستور المملكة المغربية، التصدير.

[4]: ونموذج ذلك الدعوة إلى مراجعة قرارات اللجنة التي كلفها جلالة الملك بخصوص إشكالية الإجهاض والمشكلة من وزيل العدل والأوقاف والمجلس الوطني لحقوق الإنسان.

[5]: اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، النموذج التنموي الجديد ، التقرير العام، ص:107/108.

[6]: المجلس الوطني لحقوق الإنسان، مذكرة المجلس حول النموذج التنموي، 27.

[7]: المجلس الوطني لحقوق الإنسان، رأي المجلس الوطني بخصوص مشروع قانون 103.13، يتعلق بمحاربة العنف ضد النساء، ص: 37.

[8] :: تنسيقية المناصفة، مارية شرف، أسماء الوديع وآخرون، مذكرة من أجل المساواة في الإرث، ص:38.

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى