أمور استوقفتني في يوميات وأيام عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله – محمد سالم إنجيه

بكثير من المتعة انغمست في بحر “يوميات وأيام عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله”، لكاتبها باسل الرفاعي، الصادرة عن دار الفتح بالأردن سنة 2011؛ ختمتها في خمسة أيام بمعدل مائة وعشر صفحات تقريبا في اليوم غير مستعجل، واستوقفتني فيها أمور جمعتها في المفردات التالية :

1 – أهمية الوقف عامة والذُّري منه خاصة في تأمين كفايةٍ ماديةٍ للعَقِب، صلة وصدقة جارية؛ تُغني عن مد اليد، وتقي صروف الدهر، وتحقق استقلاليةً ترفع المقام، وتُنجي من التذلل للغير.. فقد كان لآل الأميري أوقاف عظيمة آلت إليه نِظارتها من بعد..

2 – قيمة الإعداد المبكر للحياة فقد قدم له والده دروسا في العزة والأنفة والمروءة وهو صغير عبر مواقف عملية مثل : (- أمره بإخراج وفد الفرنسيين من بيته وقد جاء يطلب التدخل لإخضاع الناس للاحتلال، – رفضه لقرار حل الأوقاف الذرية، – وتعمد التأخر عن الموعد ــ وهو الدقيق في التزام المواعيد ــ حتى لا يضطر للوقوف للحاكم الفرنسي الذي طلب استقباله).

3 – ربى فيه والده الذوق الأدبي، ورقى حسه الجمالي، وحسن الترتيب، ودقة النظام، والتميز والانضباط، كما غرس فيه وفي إخوته معاني النبل وسمو القيم،؛ وقد ظهرت آثار ذلك في أسلوب حياة الأميري، ومنها عنايته البالغة في تدوين يومياته، وتأريخ مناشطه، ونتاجه الأدبي والعلمي..

4 – ارتباطه بوالدته تجاوز البر والحب والوفاء، فارتقى ليكون مودة في الأعمال الإنسانية ــ بحسب تعبيره ــ وصارت ضربا من عشق المثل الأعلى في الصبر والإيثار، وتمازجا في حياة السراء والضراء. ومن أطرف صنائعه لما قرر الذهاب إلى القدس خلال حرب 1948 أنه كتب ــ رحمة بها وشفقة ــ أكثر من عشرين رسالة وضع لها تواريخ مختلفة وقال لمن معه: إذا مت فابعثوا كل رسالة بتاريخها، تهيئة لتحمل الخبر… كما خصها ب”ديوان أمي”، ومن أجلها كان يبَرُّ جميع الأمهات، حتى ختم تعزية صديق له في وفاة والدته بالقول: 

 (كلما أطفأ الردى نجمَ أُمٍّ …… طار قلبي مخافةً وحنينا) 

5- قوة علاقاته بإخوته وعمه وعمته، ودوام صلتهم، وتحمل المسؤولية تجاههم.. وعنايته بالروابط الأسرية.

6 – عفته وصدوده عن دواعي الخنا، وهو الشاب المرهف، فقد عصمه الله تعالى بعزيمة قوية تألق بها في العلياء؛ فوفى بالعهد الذي قطعه على نفسه بأن لا يرتكب معصية بين الصلاة والصلاة؛ عزيمة صحبته في باريس لما انتقل إلى الدراسة؛ يقول عن نفسه : ” كنت أعيش حالات من التألق والسمو في مرات متعددة كثيرة، فأحس وأنا أمشي في شوارع باريس وكأنني ـ والله ـ أمشي على رؤوس الناس”.

وخلد حاله شعرا فقال:

ذهبتُ إلى باريس في طلب العُلا… وباريس أمّ الخارقاتِ العجائبِ

فلم يُلهني فيها عن الجد حُسنها… ولم يغرني ميس المِلاح الكواعب

فكم غادةٍ مدت إليَّ ذراعـــــــــــــــها…فعانقها صَدِّي ورفعةُ جانــــــــبي

7- أهمية التربية الحازمة في إخراج الشخصية المسلمة المتوازنة، بصحبة الكبار التي تنقل الخبرات، وترقى بالاهتمامات، فضلا عن مكانة المدرسة المرموقة التي تصقل المواهب، وتوجه المقاصد، وقد كان على صلة بمدينته حلب الشهباء مع جمع من فضلاء العلماء المبرزين الذين يبثون العلم وينشرون الحكمة…

8 – انخراطه المبكر في سلك الدعوة بحلب، حيث تشرب هموم الإصلاح وحملها، وظهر فهمه العميق لحقيقة الدين وأن منه ثابتا لا يتغير على الزمان، وقسم يتغير حسب متطلبات العصور.. وله في فرنسا جولات وأنشطة عديدة في صفوف العمال والطلبة، مع حرص على التنظيم والتوحيد، رغم أن إقامته بفرنسا لم تطل، لكنها الايجابية أو قُل الرسالية في شخصية المسلم..

9 – عاش أسير المحبسين: هَمِّه وهِمَّته؛ يحمل هموم أمة بعقل واع ومشاعر فياضة، تسنده همة قاطعة، لا تعرف للتردد معنى، وقد وصف نفسه:

تبنَّيْت آلامَ البلاد وهمَّهـــــا… وأصبحَ أمرُ الناس كلّهمُ أمـــــــــــري

وحمَّلتُ نفسي فوق طاقة همتي… وشِخْتُ ولم أبلغْ ثلاثينَ من عمري

10 – اعتنى بالعمل المنظم في العمل الإصلاحي التربوي منه والسياسي، وشارك في تأسيس النوادي والجمعيات العلمية والدعوية، وانضم لجماعة الإخوان المسلمين، ثم انقطع عنها تنظيميا مع بقائه وفيا لخطها ورسالتها، فاضحا الظلم الذي تعرضت له الجماعة ولا تزال، فما يقع اليوم ليس سوى إخراج جديد لمسلسل الاضطهاد القديم، والسبب في اعتقاد الأميري أن الجماعة كفكرة تجديدية للعمل للإسلام هي رأس حربة نهضة الأمة،.. ولقد كان له إسهام في التقييم والتقويم والنصح لروادها الأُوَّل.. ساعيا للإصلاح وتقريب وجهات النظر بينهم وبين الحكام، حريصا على إنصافها، وقد أبلى بلاء حسنا في الوساطة لدى الحكام لمنع التنكيل بالعلماء والدعاة في عهد عبد الناصر ومن بعده..

11 – كان مهموما حد الهوس بضمان استقلال حقيقي للبلاد الإسلامية، وانخرط بكليته في دعم قضية فلسطين متابعا لأدق تفاصيلها، داعيا ومشاركا في المؤتمرات والندوات بعد أن أسهم في حرب القدس سنة 1948، محرضا على جعلها حية في واقع الناس، حكاما ومحكومين، مدافعا عنها ومعرفا بمخاطر الاستهانة بأمرها… وغيرها من قضايا المسلمين من باكستان واليمن والصومال ودول المغرب العربي؛ وقد كانت له صلات وعلاقات عميقة من قيادات حركات التحرر بمختلف انتماءاتها ومشاربها وبلدانها، يتحرك بين الدول والمواقع حافظا للعهد، ومبادرا إلى اقتراح وعرض كل ما يفيد في جمع الكلمة ولم الشمل ودفع الظلم..

12 – لم يمتهن المناصب، رغم تحمله مسؤولية السفارة لبلده سورية، وعرضت عليه وظائف الاستشارة، وعلم مقدار ما تقتضيه المناصب من تنازلات، مؤثرا لنفسه موقعا وسطا يقترب به ما أمكن من صناع القرار، وحريصا على تنويع علاقاته، وتنمية صلاته بهم وبالنخب العلمية والسياسية في مختلف البلدان، مع الحفاظ على مسافة معتبرة تضمن استقلاليته، وقلَّ بلد إسلامي لا يعرف فيه أحدا من ذوي التأثير في الشأن العملي والفكري والسياسي..

13 – يرى أن أزمة العالم الإسلامي تتلخص في سيادة “مظاهر الحيرة والارتجال والسطحية، والانكماش في الجرأة والمغامرة، والجمود عند بعض القديم الذي ولى زمانه، والتمرد على بعض القديم الذي يستمر صلاحه، والتردد في نقد الذات، والتخاذل بين العاملين، فضلا عن الحرب الضارية التي تشنها قوى الشر…”

14 – وافق العلامة علال الفاسي رحمه الله في نصيحته له حين التحق بالمغرب ـ للتدريس بدار الحديث الحسنية سنة 1966 ـ بوجوب قبوله على طبيعته بما لها وما عليها، والصبر في مداواة علله، وإصلاح خلله، وأن يجد راحته في البذل له، وتحمل المشقة في سبيله، ولا يعمم إساءة المسيء على إحسان المحسن..” وأكد له أنها هي عزيمته وطريقته في كل بلد إسلامي يحل فيه.

15 – كان يؤثر الحكمة واللين والمهادنة مع أصحاب السلطة لاستلال السخائم من نفوسهم، وعدم استثارة حفائظهم، وترغيبهم في الإحسان إلى شعوبهم، وكسب عواطفهم ومحبتهم، لأن محبة الشعب للحكام من أهم عوامل الاستقرار..

16-  يرى أن معالجة المخالفات الشرعية تتم بجذب الإنسان المسلم إلى الحق الصُّراح بمنهجية مدروسة وفقه حضاري عميق، والعمل على هذا وذاك على بناء الإنسان بناءً سويا قويا.. واستبعاد أسلوب التحدي في التصدي، والنطاح في ميادين الإصلاح..

17 – عالمية الاهتمام، وفسخ رداء القطرية، يقول :

أنا في الرباط مرابــــــــط… ورؤاي تُغربُ في النَّــواحْ

أنا في الرياض وفي دمشقَ… وليس عن حلبي بـــــَــراحْ

أنا في امتــــــدادات الأذان… كأَنَّ في نسبي ربــــــــاحْ

قد يرتمي جســــــمي ضَنًى… والعزمُ لا يرمي السلاح

18 – اليقين التام في الله تعالى وفي جميل أقداره؛ يقول وقد أنهكه المرض :

قضاء الله حُمَّ ولا يُــــــردُّ… وأَنْعُمُهُ تزيــــــــــدُ ولا تُعَــــــدُّ

رضيتُ بما قضى الرحمن طُرًّا… فكانَ جَنى الرضا غُنْمٌ وسَعدُ

وقد تتفلَّت الآهــــــــــــاتُ مني… شَكاةً من مُصابَرتي تَنِـــــدُّ

ولا أَنفكُّ عن تقديس ربِّي… فإنَّ تأَوُّهَ الـمُـــــضْطَرِّ حَمْـــــــدُ

وما كالحُبِّ في الدنيا نعيمٌ… ولا كَرِضَا العُبَيْــــدِ الحُرِّ مجْـدُ

19 – جميل الوفاء، وعدم نسيان الفضل، وسابق العلاقة حتى بعد انقطاعها؛ فقد قال لمحاميه أثناء محاكمته في لبنان:” وليكن في الحسبان مسبقا أنني غير مستعد لأن أتبرأ من الجماعة بأية حال، رغم أن الواقع أنني لست في تنظيماتها ولا التزاماتها، ولأن ذلك في أخلاقي ينافي المروءة والجماعة محلولة مضطهدة مشتتة”، وذلك عندما عرض عليه العفو سنة 1970 مقابل المس من جماعة الإخوان..

رحم الله عمر بهاء الدين الأميري، وجزى الله خيرا الكاتب الذي نسج اليوميات بسبك دقيق، ورصد عميق لمحطات سيرة حية، حافلة بالانجازات، والسِّيَّر خِبرات.. والله المستعان.  

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى