أربع مشاهد ميزت حال القدس في التقرير السنوي 2018 لمؤسسة القدس الدولية
أربعة مشاهد أساسيّة برزت في بانوراما القدس عام 2018 يمكن إيجازها كالآتي:
مشهد الخطة الأمريكيّة “للسلام”، أو ما بات يُعرَف بـ”صفقة القرن”، وقد تقدّم فيها فريق ترمب على نار ليست هادئة بل متوهّجة بالنظر إلى خطورة القرارات والإجراءات التي اتخذتها إدارة ترمب في هذا السياق، ولا سيما نقل السفارة الأمريكية من “تل أبيب” إلى القدس في 14/5/2018 بعد قرار الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال الإسرائيليّ، وقرارات وقف الدعم عن الأونروا، ومشافي القدس، وإلغاء مساعدة مالية بـ200 مليون دولار كانت مخصصة للسلطة الفلسطينية في الموازنة الأمريكية.
مشهد التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وهو مشهد مرتبط بصورة أو بأخرى بالمشهد الأول، فهو على الرغم من كونه ليس جديدًا، إلا أنه متميز في هذه الموجة باتساع رقعته في الأوساط العربية والإسلامية، ولا سيما الرسمية منها، ومتقدّم لجهة إشهاره في العلن، وأكثر خطورة بالنظر إلى كونه من ضرورات التمهيد لـ”صفقة القرن”، وإلى كونه ليس ذا بعدٍ اقتصاديٍّ أو أمنيٍّ أو دبلوماسيّ أحاديٍّ، بل هو متعدد الأبعاد، ويأتي في سياق إعادة ترتيب المنطقة العربية والإسلامية كلّها لتصطفَّ الدول العربية والإسلامية في طابور جديد يأتمر بأوامر أمريكا والاحتلال الإسرائيليّ لخوض مواجهة عبثيّة مع دول إقليمية إسلامية بعد تغيير توصيف الاحتلال الإسرائيليّ من عدو إلى “حليف وصديق وكيان طبيعي موجود واقعًا”.
مشهد التهويد الذي لم يسلم منه كلُّ ما في القدس من مقدسيّين ومقدسات وممتلكات، فضربت يدُ التهويد لزرع آلاف الوحدات الاستيطانية في جسد القدس، وشُرِّعتْ أبوابُ المسجد الأقصى لاقتحامات المتطرفين اليهود وأعضاء الكنيست والحكومة، في ظلّ استهداف مركّز للساحات الشرقية في سياق تقدّم مشروع التقسيم المكانيّ للمسجد. ولم يكن الوجود المسيحيّ في القدس بمنأى عن مخططات التهويد، بل استمرّت اعتداءات الاحتلال وعصاباته على الكنائس المسيحية، ورجال الدين المسيحيين، وأملاك الكنائس التي كانت مهددة بالمصادرة بعد تشريع قوانين مصادرتها في الكنيست، وكلّ ذلك دفع رؤساء الطوائف المسيحية في القدس إلى اتخاذ قرار بإغلاق كنيسة القيامة ثلاثة أيام متواصلة إلى أنْ أُجبِر الاحتلال على وقف مخططات مصادرة أوقاف الكنائس، ومحاولة فرض الضرائب عليها. ولم يسلم آلاف المقدسيين من الاعتقال والإبعاد والتنكيل رجالًا ونساء وشبابًا وأطفالًا في سياق المعركة المفتوحة بين المقدسيين والاحتلال الذي يستخدم فيها سياسات هدم البيوت، وسحب هويات المقدسيين، والتهجير، والاستيلاء على البيوت والعقارات، إلخ.
مشهد الانتفاضة والمواجهة مع الاحتلال على امتداد الضفة الغربية والقدس وقطاع غزّة. والحقيقة الموضوعيّة أنّه لولا حبل الإنقاذ الذي رمته إدارة ترمب للاحتلال عبر “صفقة القرن”، وحبل الإنقاذ الذي رماه دُعاة التطبيع للاحتلال، لشاهدْناه بوضوح يسجّل تراجعًا كبيرًا بعد سلسلة الهزائم التي مُني بها عام 2018. خسر الاحتلال كلّ جولاتِه في مسيرات العودة وما تبعها من تصعيد مع المقاومة، وخسر جولته أمام الكنائس المسيحية في القدس التي أجبرته على وقف إجراءاته ضدّها، وخسر جولاتِه أمام روّاد الأقصى الذين أجبروه على فتح الأقصى مرغمًا بعد كلّ مرّة من المرات الثلاث التي أغلقه فيها، وخسر جولته في الخان الأحمر حين عادت جرّافاتُه تجرّ أذيالَ الخيبةِ عاجزةً عن اقتلاعِ سكانِ الخانِ وخيمِهم، وخسرَ أمام أحمد نصر جرّار، وأشرف نعالوة، وكلّ عملية بطوليّة اخترقت حصونَه الأمنيةَ السميكة، إضافة إلى خسائرِه المعنويةِ والأمنية أمام المواجهات المتنقلة في أحياء القدس ومدن الضفة الغربيّة، وهي مواجهات تزيده رعبًا من يقين الفلسطينيين بحقّهم، وإصرارِهم على إفشال مخططاتِ تهويدِه، ومؤامراتِ تصفيةِ قضيّتهم.
لم يكن عامُ 2018 بدايةَ المعركةِ مع الاحتلال ولا نهايتها، بل هو محطة شهدت جولات كرٍّ وفرٍّ متبادَلة، ولكنّ أخطرَ ما فيه أنّه حمل لنا تنبؤاتٍ بمخاطرَ جسيمةٍ تهدد القدسَ وكلَّ قضية فلسطين.
لقد واظبت مؤسسة القدس الدولية على إصدارِ التقارير المنهجيّة الشاملة في إطار مهمّتها التي حملتها على عاتقها، وهي سدّ ثغرة فكرية معرفية في معركة الدفاع عن القدس، وفي هذا السياق تصدر تقريرها السنويّ حال القدس 2018، بهدف رصدِ سياساتِ الاحتلال وإجراءاته، وتسليط الضوء على مخططات تصفية قضية القدس، وتحليل مواقف الأطراف المختلفة لبناء التحالفات وخوض المواجهات مع كلّ طرف حسب موقفه، وإبراز نقاط القوة لدى الشعب الفلسطينيّ ومن يسانده، ولا سيما قوة مقاومته وإصراره على الصمود والمواجهة، ورسم خريطة عمل للأطراف المعنية بمعركة القدس، وبذلك يكون العمل البحثيُّ الرصين في صلب معركة الدفاع عن القدس، وتلك هي الفلسفة الحاكمة لدراسات المؤسسة وأبحاثها.
هشام يعقوب / رئيس قسم الأبحاث والمعلومات