وقت الفراغ وفرص استثماره – رشيد لخضر
في ديننا حياة الإنسان وعمره معدود بأجله، وكل وقت يمضيه فهو محسوب له ولا يمكن أن يعوضه بشيء آخر، فإذا ذهب يوم من حياته ذهب بعضه، وكل ليلة يمضيها تُأخذ من عمره وتقربه إلى أجله، فعداد الحساب لا يتوقف يوما أو ساعة، ولا يعرف عطلة أو فراغا، لذلك فإن العاقل هو من يقدر قيمة الوقت، ويستثمر أوقات الفراغ فيما ينفعه ويفيده.
والناظر في أحوال الناس اليوم ـ وخاصة في أجواء العطلة الصيفية ـ يجد أن أغلبهم لا يحسن استثمار أوقات فراغه، ولا يعرف كيف يدبر أوقاته ويغتنمها فيما يعود عليه بالنفع، ويحقق له السعادة في حياته الدنيوية والأخروية.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم حث على اغتنام نعمة وقت الفراغ، فقال صلى الله عليه وسلم: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ”، فكثير من الناس يغفل عن نعمة الفراغ ولا يؤدي شكرها؛ بل لا يقدرها حق قدرها.
ومن معالم هذه الغفلة الحرص على تضييع الوقت وهدره بما لا ينفع ولا يفيد، فتجد كل وقته لعبا وتسلية، أو جلوسا وكسلا في المقاهي والملاهي، أو سهرا وتسامرا إلى آخر الليل، أو تسمرا أمام شاشات التلفاز، أو إبحارا في الشبكة العنكبوتية، أو حتى نوما طويلا في نهار أطول في أشهر الصيف…ويكون شعاره في ذلك كله هو قتل الوقت وتضييعه، وكأن الوقت عدو من أعداء الله وجب قتله والاعتداء عليه.
إن الوقت نعمة من نعم الله تعالى الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، ومن اغتنمها فقد فاز وغنم، ومن أهدرها فقد خاب وندم…وكما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم هو من المغبونين، خسر وغبن إذ وهبه الله تعالى نعمة الصحة والفراغ ولم يحسن الاستفادة منهما بما يعود عليه بالنفع في دنياه وآخرته، ومثله كمثل من اشترى شيئا بأكثر من ثمنه، أو باع شيئا بأقل من ثمنه، فهو مغبون في جميع الأحوال، لأنه أضاع حقه وفرط فيه بإرادته واختياره.
لذلك فإن الإنسان إذا عرف قيمة وقته عز عليه التفريط فيه أو تضييعه بلا قيمة تذكر، وإذا أدرك قيمة وقته وأهميته، كان أكثر حرصا على حفظه واغتنامه، وهذا شرط أساسي حتى لا يقع الإنسان في الغبن الذي أشار إليه الحديث النبوي السابق، ثم يأتي بعد ذلك حسن تدبير الوقت وأفضلية استثماره، يقو ابن الجوزي: “ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل “.
إن الوقت درة ثمينة، وجوهرة رفيعة، لا يباع ولا يشترى، ونحن مسؤولون عند تضييعه، وسيأتي يوم نسأله فيه عن وقتنا وعمرنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره: فيمَ أفناه؟ وعن شبابه: فيم أبلاه؟ وعن مالِه: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعَنْ عِلْمِه: ماذا عمل فيه؟”.
وعند تأمل الحديث لابد من استشعار كمية الأوقات الهائلة التي تهدر، ولا تستغل استغلالا حسنا، بل وفي أحيان كثيرة أعمارا تفنى في الضياع والتهافت وراء سراب غير ذي جدوى.
وما يدل على أهمية الوقت في حياة المسلم دعوة رسولنا صلى الله عليه وسلم لمواصلة العمل حتى ولو لم ننظر لنتيجته، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” إذا قامتِ السَّاعةُ وفي يَدِ أَحدِكم فَسيلةٌ، فَلْيغَرِسْها”، يُرغب في العمل الدائم والمتواصل، وترك التماطل والتسويف، ويدفع الكسل والعجز عن الناس، فحتى ولو قامت القيامة وفي يد أحدنا فسيلة (نخلة صغيرة) من زرع، فليضعها ويغرسها…مما يدل دلالة واضحة على ضرورة استغلال الوقت بالعمل النافع والمفيد.
ومما يدل على خطورة الوقت وقيمته أنه مغيب عنا، فكل إنسان له وقت وعدد أنفاس مقدرة، ولكن لا علم له بذلك أبدا، فهو يجتهد في الإنفاق لكن لا يعلم قدر رأس المال، لذلك فالإنفاق في غير طاعة وقربة إلى ربه يعتبر مخاطرة ومجازفة وأي مجازفة.
وحرصا على أهمية الوقت وعدم تضييعه حث رسولنا صلى الله عليه وسلم على تنظيم الوقت واستثمار فرصه، كما دعا إلى اغتنام قوة الشباب، وفرص الفراغ في العمل الصالح، وبالمقابل حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من خمسة عوائق تعيق استثمار الأوقات، قال صلى الله عليه وسلم: ” اغتنِمْ خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هَرَمِك، وصحتَك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغَك قبل شُغلك، وحياتَك قبل موتك”، واغتنام هذه الفرص المذكورة في الحديث النبوي، واجتناب معوقات هدر الأوقات، هو ما يحقق ما وصل إليه ما يسمى بعلم فن إدراة الوقت في عصرنا الراهن.
إن ما يسمى بالعطلة أو وقت الفراغ غير صحيح، دائما هناك عداد الوقت في حياتنا مشتغل، ويأخذ من أعمارنا أجزاء تقربنا إلى آجالنا المحسومة، فالإنسان ينتقل من عمل إلى عمل آخر، يدور بين الفراغ والنصب (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)) “سورة الشرح”، لذلك فـ “العطلة” ينبغي أن تعد راحة مفيدة تبني ولا تهدم، تُسطر فيها أهدافا تجمع بين المتعة والاستفادة، تُزاوج بين الترويح والتثقيف الهادف.
ومما يساعد على حسن استثمار وقت الفراغ هو أن يكون للشخص هدف واضح يسعى إليه في حياته، ويعمل بكل جد واجتهاد طوال حياته لتحقيقه والوصول إليه، وأما ما يصادفه من أوقات فراغ أو عُطل فإنه يحسن استثمارها بما يقربه من تحقيق هدفه ونيل مبتغاه.
ومن الفرص التي يمكن استثمارها في أوقات الفراغ إعادة ترتيب الأفكار والتأمل فيها، قصد التهذيب والتشذيب، وأخذ ما صلح، وطرح ما طلح.
وأوقات الفراغ صالحة لتسطير برنامج مراجعة ومذاكرة، مراجعة محفوظ من قرآن كريم أو حديث نبوي قد نُسي، ومذاكرة علم من العلوم، أو إعادة قراءة مقروءات، أو قراءة أخرى جديدة…وعموما فإن الاشتغال بكل تعليم أو تعلم مفيد ومنشط للذاكرة وبناء العقل، ويطرد الملل والروتين، ويجدد النفس والعزم.
وأوقات الفراغ فرصة ثمينة للاستماع إلى الدروس العلمية، والمحاضرات الفكرية، والبرامج الإعلامية الحوارية..ويكون ذلك في أي مكان تنتقل فيه تشغل فيه سمعك وفكرك بما يفيده، بدل تركه يضيع بين الشوارد والأفكار العشوائية.
وفي أوقات ترويحنا يمكن استثمار ذلك في التأمل والتفكر في خلق الله وإبداعه تعالى في الكون بما يقوي إيماننا، ويزيدنا قربا ومحبة لخالقنا.
وأوقات الفراغ فرصة أيضا للإقبال على المجتمع بكل تفان وإخلاص، تطوعا وعملا خيريا مساعدا، فكم من المبادرات الخيرية من جمعيات المجتمع المدني تحتاج إلى أياد بيضاء تساعدها في عملها التطوعي والميداني، وتغمر الإنسان سعادة كبيرة عندما يجد نفسه يشارك في الإحسان إلى خلق الله تعالى، مثل إغاثة ملهوف، أو السعي على أرملة أو مسكين، أو مساعدة يتيم… وسائر أنواع الخير والتطوع التي تسعى في حل هموم الفقراء والمساكين.
يروي الصحابي الجليلُ أبو ذرٍّ – رضي الله عنه – فيقول: قلتُ: يا رسولَ الله: أيُّ الأعمالِ أَفضلُ؟ قال: ((الإيمانُ باللهِ، والجِهادُ في سبيلِه))، قال: قلتُ: أيُّ الرِّقاب أفضلُ؟ قال: ((أَنفَسُها عندَ أهلِها، وأَكثرُها ثمنًا))، قال: قلتُ: فإنْ لم أفعلْ؟ قال: ((تُعين صانعًا، أو تَصنعُ لأَخرقَ”ليس بصانع))، قال: قلت: يا رسولَ الله: أرأيتَ إنْ ضَعُفتُ عن بعض العمل؟ قال: ((تَكفُّ شَرَّكَ عنِ النَّاس، فإنَّها صدقةٌ منكَ على نفسكَ)).
إن هذا الحديث النبوي وغيره كثير يرغب في العمل الخيري التطوعي الذي ينفع الناس ويقدم لهم الخير، وفي حالة عدم الاستطاعة، وبمبرر عدم وجود الوقت وجب كف الأذى عن الناس، وفي جميع الأحوال يكون الهدف هو السعي إلى خدمتهم ونفعهم.
إن الإنسان الذي له هدف في الحياة، يجعل من وقته فرصة ثمينة لتحقيق كل طموحاته وسعادته الدنيوية والأخروية، لذلك يجعل من العطلة أو أوقات الفراغ عبارة عن محطات يتزود فيها لمواصلة المسير بنفس جديد، وعزم أقوى، ولا يترك نفسه للفراغ والدعة والكسل، ولا يستسلم للروتين والملل، لأنه جعل من حياته تعبا وراحة، راحة وتعب، وهكذا دوران بين هذا وذاك.