ملاذ المستضعفين من وحي سورة الكهف (2) – سحر الخطيب

إحكام الأمان وصناعة الإمكان نصرة للمستضعفين

الاستضعاف سنة جارية إلى قيام الساعة ما دام الطغيان و الاضطهاد ساريان في المجتمعات و الحضارات المتعاقبة على وجه البسيطة. فكلاهما في تدافع تدافع الخير و الشر و الحق و الباطل إلى أن يرث الله الأرض و من عليها. و لم يستثن من هذا الابتلاء حتى الأنبياء و المرسلون،  و المصلحون و هم المصطفون الأخيار، لم يستثن لا نوح و لا إبراهيم و لا لوط و لا موسى و لا عيسى عليهم السلام و لا ختاما خير خلق الله محمد صلى الله عليه و سلم.

سورة الكهف لم تذكر مصطلح “الاستضعاف صراحةً كما في سور أخرى (مثل القصص أو النساء)، لكنها تضمنت مواقفَ يمكن استخلاص معاني الاستضعاف والظلم والنجاة الإلهية منها، كما في قصة موسى والرجل الصالح و في قصة ذي القرنين.

إحكام الأمان (قصة الرجل الصالح و النبي موسى)

في رحاب سورة الكهف، تضعنا قصة موسى والرجل الصالح عليهما السلام أمام حقيقة الاستضعاف في الميزان الإلهي، حيث تتجلى حكمة الله في حفظ الضعفاء بطرق قد تخفى على أعين الناظرين. فالله تعالى لا يغفل عن ظلمٍ وقع على مخلوق، ولا عن دمعة يتيمٍ، ولا عن سفينةِ مساكينَ تكاد تغرق بظلم الحكام.

“فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَاۖ قَالَ أَخَرَقتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـًٔا إِمۡرٗا (71)”

 “ فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا لَقِيَا غُلَٰمٗا فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡسٖ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـٔٗا نُّكۡرٗا (74)”

” فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لاَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا (77)”.

لقد جاءت أفعال الرجل الصالح الثلاثة حماية للمستضعفين من وجوه لا يدركها العقل البشري بمفرده. في قصة السفينة، يتجلى الاستضعاف الاقتصادي، حيث كان الفقراء عرضة لمصادرة ملكهم الوحيد : أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا (79) “. و في قصة الغلام، هناك استضعاف روحي حيث كان الأبوان المؤمنان على وشك الانحراف بكفر ابنهما : “وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا (80) فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا (81)”. ثم في قصة الجدار، يبرز الاستضعاف الاجتماعي حيث كان اليتيمان عرضة للضياع بعد موت أبيهما الصالح : ” وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَ”.

ففي ثنايا الاستضعاف الاقتصادي، عندما خرق الرجل الصالح السفينة لأصحابها المستضعفين، الذين يعملون في البحر، كان هناك ملك ظالم يصادر كل سفينة سليمة، ظن موسى عليه السلام أن هذا عمل إفساد، لكن الحكمة كانت خفية: فكان الخرق نجاة لهم، لأن السفينة المعيبة لا تُصادر. قد يمنع الله عن عبده شيئاً ظاهره خير، لكنه يحفظه من شر أعظم. فلنثق بحكمته!

و عند الاستضعاف الروحي، عندما  قتل الرجل الصالح غلاماً بريئاً، كان أبواه مؤمنين، وهذا الغلام سيكون سبباً في إغراقهما في الكفر والطغيان، أراد الله أن يبدلهما ولداً خيراً منه، زكياً وقريباً منهما: قد يأخذ الله من العبد شيئاً يحبه، لكنه يعطيه ما هو خير له، وإن لم يدرك ذلك في البداية.

أما عند الاستضعاف الاجتماعي في القرية البخيلة، أصلح الرجل الصالح جداراً دون أجر لغلامين يتيمين. و تحت الجدار، يوجد كنز لهما. وكان أبوهما صالحاً، فحفظ الله لهما الكنز ببركة صلاح أبيهما، فتعجب موسى. لكن الحكمة هي صلاح الآباء قد يكون سبباً في حفظ الأبناء، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

إن غزة، و من بعدها فلسطين، تعيش في زمنٍ يموج بالاستضعاف بكل أشكاله: أمهاتٌ يخشين على أولادهن من الضياع. شبابٌ تكسرت سفن أحلامهم بظلم الظالمين، و أيتامٌ لا يجدون من يرفع عنهم حائط الانهيار. هناك من يصرخ من القلب: “كيف تخرق سفينة غزة ويغرق أهلها؟!”

فيهمس القدر بثقة في وعد الله: “هذا الخرق شفاء.. فوراء الأفق طغاة، يتربصون بمقدرات الأمة و ينهبونها ظلما و عدوانا. لا تيأس إذا رأيت سفينة غزة تُخرَق، فلعل الله يعدل عنها و عن الأمة شراً أكبر!”

نرى أطفال غزة يلعبون تحت الشمس،  كم كانوا رموزا للبراءة !  فإذا بيد القدر تمسك أرواحهم و تقطفهم كزهرات  لتلد أرحام غزة مكانهم أجمل و أقوى.  نحن نذوب ألماً: “قتلت نفس لم تُذنب؟!”  فيجيب القدر بنظرة حانية:  ” سينبت الله بدلاً طيباً”.

أما جدار غزة المتداعي و المتهاوي، فستعيد المقاومة بناءه و سترمم بنيانه رغم قسوة قلوب إخوة الجوار و رغم المعابر المغلقة و الحدود المطبقة، فجدار غزة لن ينهار لأنه هو من يحمي مقدرات هذه الأمة، بل سيعيد القدر إقامته لأن المولى تولى حفظ أمانة أهل القبلة الأولى و مسرى الرسول الأعظم صلى الله عليه و سلم.

جاءت هذه القصة رسالة أمل: أن الله يحفظ المستضعفين حتى لو بدا الأمر عكس ذلك. فهو القائل:  ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ﴾ ] القصص: 5 [.

فيا من تشعر بالاستضعاف:.لا تحزن إذا فُقد من تحب، فلعل الله يبدلك خيراً منه. لا تقلق إذا ضاقت بك السبل، فلعل تحت أنقاض أحزانك كنوزاً لا تعلمها.

فهذه القصة تذكرنا أن الاستضعاف في الدنيا ليس نهاية المطاف، بل هو اختبار للصبر، وتمحيص للإيمان، ومقدمة لنصرٍ قريبٍ بحول الله. العلم الإلهي أوسع من علم البشر، فلا نعجل في الحكم على الأحداث و الله يحفظ المستضعفين بطرق لا نراها، فلنكن مطمئنين إلى رعايته. أما الصبر على القضاء، فوراء كل أمرٍ حكمة، وكل شيء بقدر و أن نثق بالله حتى عندما لا نفهم، وأن المستضعفين في ظل الله  و هم في الحقيقة أقوياء بحمايته!

فسبحان من جعل الحكمة بحراً لا ساحل له،  والصبر سفينة الموقنين العارفين.

صناعة الإمكان (قصة ذي القرنين مع قوم ما بين السدين و إرثه للمستضعفين)

أيا من يحلم بنهضة الأمة، أيا من يصمد في وجه الأعاصير، أيها المستضعفون الذين يحملون في قلوبهم إرادة التغيير..

ها هو ذو القرنين يخاطبنا عبر الزمان، ليسير بنا من ظلمات الاستضعاف إلى نور التمكين!

لقد جاءت قصته في القرآن نموذجاً خالداً لـ صناعة القوة من رحم الضعف، وتحويل التحديات إلى انتصارات، وبناء الحضارة من تحت أنقاض اليأس.

لقد واجه ذو القرنين قوماً مستضعفين قالوا:

*”يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا” 

فمثل سَدُّ ذِي القَرنَين دِرْع الضُّعَفَاءِ وَفَنّ الصُّمُودِ و تجلت فيه آيَاتِ المَوهِبَةِ وَالقُوَّةِ. فعند مطالعة الآيات، نشاهد شَعْبا تَائِها بَيْنَ السَّدَّيْنِ. وَجَدَهُمْ كَأطْفَالٍ فِي عَاصِفَةٍ لا يَفْقَهُونَ إِلَّا لُغَةَ الخَوْفِ، فَتَأَمَّلَهُمْ بِعَيْنَيْ قَلْبه. لَمْ يَرَ ضُعَفَاءَ، بَلْ رَأَى أَجْنِحَةً مَكْبُوتَةً تَنْتَظِرُ نَفْحَةَ الحِكْمَةِ.

ثم يأتي المشهد الثانيالقُوَّةُ لَيْسَتْ فِي الذَّهَبِ، قَدَّمُوا لَهُ كُنُوزَهُمْ، فأجابهم:
مَا أُعْطِيتُهُ مِنْ رَبِّي أَغْنَى..
سَأُعَلِّمُكُمْ كَيْفَ تَبْنُونَ بِأَيْدِيكُمْ!”

“قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا (94)  قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيۡرٞ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ رَدۡمًا (95)

ثم يتجلى المَشْهَدُ الثَّالِثُ: ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ ٱلصَّدَفَيۡنِ قَالَ ٱنفُخُواْۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارٗا قَالَ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرٗا (96)  فَمَا ٱسۡطَٰعُوٓاْ أَن يَظۡهَرُوهُ وَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ لَهُۥ نَقۡبٗا (97)في هذه الآيات، يبرز لنا مَشْغَلُ التَّمْكِينِ:

  • فالزُّبَرُ الحَدِيدِيَّةُ: أَشْبَهَ بِتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُمْ فَنَّ الإِصْرَارِ .كُلُّ قِطْعَةِ حَدِيدٍ هِيَ إِرَادَةٌ لَا تَنْثَنِي. فِكْرَةٌ لَا تَصْدَأُ.
  • و النَّفْخُ حَتَّى التَّأجِيجِ: كَانَ يُرَسِّخُ فِيهِمْ أَنَّ الضَّعْفَ وَهْمٌ. النَّارُ لَا تُذِلُّ الحَدِيدَ، بَلْ تُصَيِّرُهُ أَصْلَبَ!
  • ثم القَطْرُ المَصْهُورُ: رَمْزٌ لِلتَّضَامُنِ. كيْفَ أَنَّ التَّعَاوُنَ يَجْعَلُ الحُدُودَ بَيْنَ القَوْمِ وَالخَطَرِ كَالسُّيُوفِ المَسْلُولَةِ!

ثم أتت الآية الموالية : “ قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا (98) لتغرس في كل نفس أن السَّدُّ.. لَيْسَ حَجَرًا بَلْ دَرْسًا. لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الجِدَارُ إِلَّا مِفْتَاح رحمة ربانية أَعْطَاهُ لَهُم ذو القرنين:

  • فكانت خَرِيطَةُ الطريق بأن حول ذو القرنين المَخَاوِفِ إِلَى مَشَارِيعَ.
  • و زودهم بطريقة استغلال الأَدَوَات: لُغَةُ الحَدِيدِ وَالنَّارِ بَدَلَ العَوَزِ وَالدُّمُوعِ.
  • و أخبرهم بالوَعْد الإِلَهِيُّ: هَذَا رَحْمَةٌ.. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي صَارَ تُرَابًا!”..

غَادَرَ ذو القرنين وَقَدْ تَرَكَ يَدًا تَبْنِي بِالحَدِيدِ، و قَلْبًا يَعْرِفُ أَنَّ الرَّحْمَةَ الإِلَهِيَّةَ تَخْتَبِئُ حَتَّى فِي أَشَدِّ الأَسْيَافِ صَلَابَةً، وَأَخْبَرَهُمْ بِسِرِّ الخُلُودِ:
لَنْ يَسْتَطِيعُوا نَقْبَهُ.. حَتَّى يَأْتِيَ اليَوْمُ المَوْعُودُ!” فَأَدْرَكُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا ضُعَفَاءَ بَلْ حُرَّاسًا لِرَحْمَةِ اللهِ فِي الأَرْضِ.

 رسالة إلى المستضعفين: كيف تبنى السدود بإرادة من حديد ؟

فلجميع الأحرار تحت الظلم:عندما وقف ذو القرنين أمام ذلك الشعب المغلوب على أمره، لم يقدم لهم مجرد سدٍّ من حديد، بل علمهم فن التحول من الضعف إلى القوة.  و أوصى كل المستضعفين باكتشاف  القوة الكامنة في خفايا النفس الإنسانية. لقد حول الحديد الخام  إلى درع منيع و النار المحرقة  إلى عامل تماسك و النحاس المصهور إلى سدٍّ لا يقهر. فالموارد موجودة، لكن العبرة في كيفية توظيفها.

عندما عرض على ذي القرنين المال قال ما مكني فيه ربي خير.

فأرسل لقوم ما بين السدين و لكل المستضعفين من بعدهم رسالة مفادها ألا يستبدلوا كرامتهم بمعونات تذل، و ألا يرهنوا استقلالهم بمساعدات تشترط الولاء للظالم و أن القوة الحقيقية تأتي من التوكل على الله ثم الاعتماد على الذات. علمنا و إياهم أن القوة فنٌّ جماعي. ما كان السد ليكتمل لولا تعاون الجميع في نقل الحديد، و تكاتف الكل في إشعال النيران و تآزر مجموع الأفراد في صهر المعادن.

 فالوحدة هي سلاح المستضعفين الأقوى. فكل فرد منهم يساهم في بناء السد العظيم.

السد ليس حجرًا بل عقلية.  لم يكن الهدف فقط منع يأجوج ومأجوج  و من بعدهم كل الطغاة و الجبابرة، بل تعليم  كل مستضعف صناعة الحلول، تمرينه على ثقافة المقاومة، تذكيره بأن الرحمة الإلهية تتدفق حتى عبر أدوات الممانعة.

فلنتذكر أن كل سدٍّ مؤقت “فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء”
لكن ما تعلمه المستضعفون : هو مهارات البناء و الثقة بالنفس و الإيمان بالغيب. هذا ما سيبقى معهم للأبد.

و في هذا العصر، ألا نشعر في ثنايا أنفسنا أننا نعيش، كقوم ما بين السدين، مستضعفين بين سدين من الظلم:

– سد الاستكبار العالمي..

– وسد التخلف الداخلي..

فلنعلم أن الله قد أودع فينا طاقة ذي القرنين، إنما تنتظر إرادة التحرك لنحوّل الضعف إلى قوة، والخوف إلى منعة، والتخلف إلى مشروع حضاري.

أسست قصة ذي القرنين ثلاثية صناعة القوة:   فقد امتلك رؤية واضحة من خلال تشخيصه الصحيح للوضع القائم، ثم امتلك

إرادة صلبة من خلال رفض الاتكالية والخضوع  و أنجز عملا محكما من خلال تشييد بناء منظم متقن.

فالاستضعاف ليس قدراً محتوماً، بل هو اختبار لإظهار كنوز القوة الكامنة في الأمة.

فمن يمنعنا اليوم أن نكون أصحاب مشروع نهضة كما كان ذو القرنين؟

من يمنعنا أن نحول الاستضعاف إلى قوة ؟

من يمنعنا أن نصنع سدودنا الحضارية في وجه كل ظالم؟

فالمستضعفون اليوم هم أصحاب التمكين غداً، إذا ما استلهموا دروس ذي القرنين! من تحويل المخاوف إلى خطط و من استخدام للموارد البسيطة بذكاء و من تكاتف بين بعضهم البعض كخلايا الجسد الواحد.

فالسدود تهدم، لكن الأمم التي تتعلم صناعة السدود.. تبقى

من أعماق سورة الكهف، حيث تجلت حكم الله في قصة موسى والرجل الصالح، وعظمة العدل في مسيرة ذي القرنين،  تنبع رسالة إحكام الأمان وصناعة الإمكان، دعوةً للعمل، وتذكيراً بالمسؤولية، وتأكيداً على أن الأمة الخيّرة هي من تحمل همَّ المستضعفين، وتمكنهم من أن يصنعوا من العُسر يُسراً.

تؤسس سورة الكهف منهجا قرآنيا لمواجهة المحن وبناء الأمل. فسورة الكهف نور لنا و لأهل غزة في زمن تجتمع أهوال  ضخام من الحصار والعدوان و الإبادة و التطهير والتجويع. أهوال عظام لتنوء منها الجبال. وفي هذا السياق، نستلهم إحكام الأمان من قصة موسى و الرجل الصالح، وصناعة الإمكان من مسيرة ذي القرنين، لنقدم نموذجين عمليين لتمكين المستضعفين.

فتلهمنا قصة موسى والعبد الصالح التضحية بالجزء لإنقاذ الكل (خرق السفينة لتفادي مصادرتها)، و تعلمنا اتخاذ قرارات صعبة لإنقاذ المستقبل (قتل الغلام) و ترشدنا إلى الحفاظ على حقوق الأجيال القادمة رغم الظروف و التحديات (إصلاح الجدار).

أما قصة ذي القرنين، فتنقل المستضعفين من الحصار إلى التمكين  و من الخوف إلى صناعة الحل، و تقدم الصالح الأعمق على المصلحة الآنية كما تحول الحدود المحاصرة إلى نقاط قوة، و تقفز من الإحساس بالعجز و الشلل إلى التحالف الإستراتيجي و تعزيز الروابط في محور الممانعة و المقاومة.

اليوم..إذا قمنا بقراءة التدابير الإلهية في الأحداث و بموازنة بين الظاهر والباطن في تقدير المصالح، لأدركنا أن كهف غزة يصنع المعجزات بحكمة الرجل الصالح في إدارة الأزمات و بهمة ذي القرنين في بناء القدرات.

فماذا صنعنا نحن اليوم لأهل غزة، و للمستضعفين في كل مكان؟

لا ننتظر المُعجزات، بل نصنع الأسباب.

لا نتفرج على الدمار، بل نكون يد الله التي تُعمر.

لا نقل “لا نقدر”، بل نصنع الإمكان و نبحث عن حلٍّ كما فعل الرجل الصالح وذو القرنين.

  • كل عالم يبذل علمه.
  • كل غنيّ يبذل ماله.
  • كل شابّ يبذل وقته.
  • كل والدان يربيان جيلاً .
  • كل من موقعه، و كل من خبرته،
  • و كل مما آتاه الله.

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى