مصطفى قرطاح يكتب: علو الهمة وأثره في حياة الداعية (الحلقة الأولى)

  تقتضي الدعوة إلى الله تعالى ممن انتدبوا أنفسهم للقيام بها، الأخذ بكل أسباب القوة وشروط الإحسان، استرشادا بقول الله تعالى لنبيه موسى عليه السلام: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا ‌بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ﴾ [الأعراف: 145]، واقتداء برسله الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي ‌الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ [ص: 45].

 وتتعدد جوانب هذه القوة ما بين: قوة نظرية؛ تتمثل في إعداد الدراسات والمخططات وتفصيلها إلى أهداف وبرامج، وقوة مادية؛ تتجسد في اتخاذ ما استجد من وسائل تقنية وما توفر من موارد مالية، وقوة بشرية؛ تتمثل في كثرة العاملين وتنوع أجناسهم وأعمارهم، وتعدد مواهبهم وكفاياتهم.

 ولئن كانت هذه الأسباب والشروط لازمة بمجموعها للقيام بهذه المهمة الربانية، ولا يمكن الاستغناء عن أحدها اكتفاء بالآخر، فإنها مع ذلك تتفاوت من حيث الأهمية ولا تتساوى، إذ يتربع على رأسها العنصر البشري، فهو حجز الزاوية بين تلك الجوانب، و مهيمن عليها كلٍّها.  

 فعلى قدر قوته تكون قوة التخطيط والبرمجة، وتتناسب معها قوة التنفيذ والتنزيل أيضا. وما بين التخطيط المحكم والتنفيذ السديد يبحث العنصر البشر القوي عن الفرص والوسائل المتاحة، مما يفضي إلى تحقيق نتائج أفضل. أما إذا ضعف العنصر البشري، فإنه يُضْعِفُ كل ما بين يديه من مخططات وبرامج، ووسائل وموارد،  ويُضعف تنزيلها وتنفيذها، كما يُضَيِّعُ الكثير من الفرص التي تتاح له، ويلجأ في مقابل ذلك إلى البحث عن تعلة يتلهى بها عن محاسبة نفسه عن فشله.

وقد بين الله تعالى الفرق الذي تصنعه قوة العنصر البشري فقال: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ ‌كَلٌّ ‌عَلَى ‌مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 76] كما نوه الله تعالى بنيه محمد صلى الله عليه وسلم وبمن تخرج على يديه من رجال فقال: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ‌أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ [الفتح: 29]، ومن بين هؤلاء معاذ بن جبل رضي الله عنه.

 فعن فروة الأشجعي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إنَّ معاذَ ‌بْنَ ‌جبلٍ كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين، فقلت له: إنما قال اللَّه: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ‌قَانِتًا لِلَّهِ ﴾ [النحل: 120]، فأعاد قولَه: إن معاذا كان أمة قانتا لله، وقال ( أي عبد الله بن مسعود): ما الأمة؟ وما القانت؟ قلت: اللَّه ورسوله أعلم، قَالَ: الأمة الَّذِي يعلم الخير ويُؤتَمُّ بِهِ، والقانت المطيع لله عزو وجل، وكذلك كَانَ معاذ معلما للخير، مطيعا لله عَزَّ وَجَلَّ ولرسوله[1].

 واجتمع  عمر بن الخطاب يوما مع ثلة من أصحابه فقال لهم:  تمنوا! فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا فأنفقه في سبيل الله ثم قال: ‌تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا أو زبرجدا أو جوهرا، فأنفقه في سبيل الله وأتصدق، ثم قال عمر: ‌تمنوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، قال عمر: «أتمنى لو أنها مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان»[2].

  إن قوة العنصر البشري تتشكل من مجموع قواه النظرية ـ الفكرية، وقواه العقدية الإيمانية، وقواه النفسية ـ الوجدانية، وقواه التواصلية والبيانية. فإذا اجتمعت هذه العناصر كلها قدمت عنصرا بشريا ، تواق النفس، قوي العزيمة، لا تعوزه حيلة ولا تعوقه كدية، وكلها معان تجتمع في مفهوم واحد هو علو الهمة. فما معنى علو الهمة؟ وما هو أثره على حياة الداعية؟ وكيف يتم اكتسابه؟ هذا ما سنحاول بيانه في الحلقات المقبلة.  

—–

[1]  ـ «أسد الغابة في معرفة الصحابة (5/ 187) لابن الأثير الجزري، عز الدين ، أبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني  (ت ٦٣٠هـ) تحقيق: علي محمد معوض، عادل أحمد عبد الموجود دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى ١٤١٥هـ – ١٩٩٤ م

[2]  ـ فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: فضائل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، 2/ 738 تحقيق: د. وصي الله محمد عباس مؤسسة الرسالة – بيروت الطبعة الأولى، ١٤٠٣ – ١٩٨٣، و المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري (ت405ه) وقال الذهبي: على شرط البخاري ومسلم، 3/ 252،  دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا دار الكتب العلمية – بيروت الطبعة: الأولى، ١٤١١ – ١٩٩٠

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى