مدونة الأسرة و دواعي المراجعة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

هذه رسالة في مقاربة بعض الدواعي التي تفرض مراجعة مدونة الأسرة، والبواعث التي تدعو إلى إصلاحها

1: مركزية الأسرة وأهميتها في  الإسلام

 يؤكد استقراء نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية على الأهمّية البالغة التي تحتلها الأسرة ضمن المنظومة التشريعية الإسلامية؛ فقد شاءت إرادة الله تعالى أن تكون بداية الخلق أسرة؛ قال تعالى ” يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء[1].

وقد فصّل القرآن في أحكامها بشكل يؤكد أهميتها والحاجة للتدقيق في أحكامها، بما يزيل أسباب تفككها أو ضعفها نتيجة التنازع في الحقوق و الواجبات.

فالأسرة آية من آيات الله عز وجل في المجتمع “ومن آيته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون[2]؛ أحاطها الله تعالى بمنظومة تشريعية محكمة من الواجبات والحقوق والالتزامات؛ التي تؤهّلها للإسهام بشكل فاعل في استقرار المجتمع وتماسكه ونهضته.

2: مركزية الأسرة وأهميتها في بنية المجتمع

إن تاريخ المجتمعات والدول يؤكّد أنّ الأسرة هي الضامن لتماسكها واستمرارها واستقرارها، إذ هي التي تمدّها بالنسل الذي يضمن تعاقب الأجيال؛ وهذا أحد أعظم غايات الأسرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس ابن مالك” تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر الأنبياء يوم القيامة[3]. ومعلوم ما للتكاثر من وظائف اجتماعية وحضارية واقتصادية لا يجادل فيها عاقل، ولا أدل على ذلك مِمّا تعيشه العديد من الدول التي تعرف شيخوخة مجتمعية تهددها بالانقراض في المستقبل بسبب العزوف عن الزواج أو عن الولادة؛ أو بسبب ما شاع فيها من المسخ الأخلاقي والثقافي من قبيل أصناف الشذوذ الجنسي التي تتفشّى فيها يوما بعد يوم.

كما تسهم الأسرة في نقل وتوريث منظومة القيم المجتمعية للأجيال، وحفظ الذاكرة الحضارية والتاريخية، وتحصين هوية المجتمع ومرجعيته، قال صلى الله عليه وسلم “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه[4]. فالأسرة هي التي تحفظ عقيدة الإسلام وثقافته ومُثُلَه وقيمه، وتنقها بكل أمانة للأجيال القادمة.

كما تسهم الأسرة في استقرار المجتمع وتماسكه في الأزمات وعند التوترات؛ وهو ما أّكّدته مرحلة الحجر الصحي خلال جائحة كورونا، حيث تكفّلت الأسرة بالوظائف التعليمية والتربوية والاجتماعية والأمنية والصحية في وقت توقفت فيه الكثير من مؤسسات المجتمع.

3: المشاكل التي تعاني منها مؤسّسة الأسرة

وهي متعددة ومتنوّعة؛ من أهمها:

  • المشاكل الاجتماعية: حيث ارتفعت نسبة الفقر في صفوف الأسر، وعجزها عن الوفاء بمستلزمات معيشتها اليومية، حيث إنّ 79،2 في المائة من الأسر تدهور مستوى معيشتها، و86 في المائة توقعت ارتفاع مستوى البطالة، و78،9 في المائة لا تستطيع شراء سلع مستديمة، و45 في المائة استنزفت مدخراتها أو لجأت للاقتراض[5].
  • المشاكل التربوية: وعلى رأسها العجز المتزايد للأسر على المواكبة التربوية للأطفال؛ أمام التحدي الرّقمي المعاصر الذي اخترق منظومة التّنشئة وأصبح يتجاوز الأسرة في بناء القيم، وهذا التّحدي يفرض التفكير الجماعي في مدى إمكانية الاستفادة من هذه الثورة الرقمية دون إضعاف لوظيفة الأسرة في التربية؛ خاصة أمام الضعف البارز في منظومة التربية والتعليم الرّسمية.
  • المشاكل التشريعية: وعلى رأسها فشل المنظومة التّشريعية في إيجاد الحلول النّاجعة لصيانة الأسرة؛ سواء تعلّق الأمر بالحد من تزايد حالات الطلاق، أو بإيجاد مخرج لمشاكل توثيق الزواج العرفي، أو بسوء تفعيل مسطرة الصلح ، فضلا عن عدم تقنين مقاربة الوساطة الأسرية التي من شأنها أن تسهم في حماية الأسرة من التفكك وفي صون الأبناء عن الضّياع والانحلال.

4: التّحدّي الطّارئ على المرجعية وعلى الخصوصية الوطنية من جرّاء الإملاءات الخارجية

إذ ما فتئت الهيئات الدّولية والأمميّة تمارس كلّ أنواع الضّغوط من أجل فرض رفع كلّ تحفّظات المغرب على الاتّفاقيات التي وقّعها وأرفقها برسائل تفسيرية تبرّر أوجه الخصوصية المغربية في التّعاطي بشكل خاصّ مع القضايا التي تثيرها هذه الاتفاقيات؛ وذلك من قبيل: إلغاء تجريم الشذوذ، و كذا العلاقات الجنسية خارج مؤسّسة الزواج الشّرعي، وإلغاء التّصرّف في الحدّ الأدنى لسنّ الزواج، وإلغاء إمكانية تعدّد الزوجات، وإلغاء كلّ الأحكام “التّمييزية” في مجالات الطلاق والحضانة والميراث ……

وهذه الضّغوط أصبحت تتعارض صراحة مع الثوابت المرجعية للمغرب، وهو ما يفرض الانحياز للخصوصية في مواجهة التوصيات والإملاءات الخارجية، التي تصطدم بالمقاصد الكبرى للتشريع المغربي في قضايا الأسرة.

هذه بعض الدواعي التي تفرض تجديد النظر في مدونة الأسرة، بل في كل التشريعات التي لها علاقة بهذه المؤسسة من قريب أو بعيد، بما يسهم في تماسكها وضمان استقرارها وأدائها لوظائفها.

ويبقى السؤال الذي يُطرح هو: بأي منهج وبأيّة مقاربة ينبغي إعادة النظر في هذه المدونة؟

وإلى رسالة قادمة بحول الله.

[1] : سورة النساء الآية 1.

[2] : الروم الآية 21.

[3] : صحيح ابن حبان، ج:9/ ص:338

[4] : المصدر نفسه، باب الفطرة، ج:1/ ص:336.

[5] المذكرة الإخبارية الخاصة بالفصل الثاني من سنة 2022 الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى