ليلة القدر.. الدلالات والعبر والمقاصد
تميزت ليلة القدر في دين الإسلام بمزية خاصة على سائر ليالي رمضان المعظم، حيث ندب الدين الحرص عليها طمعا في إدراكها لما يكون معها وفيها من الخير والفضل.
ويعود سبب تسميتها بهذا الاسم القرآني عند العلماء إلى عدة معان تشملها وتنبه من خلال التسمية عليها.
ليلة القدر: سبب التسمية
أ – التعظيم: فهي ليلة معظمة ذات شأن وقدر كبير وعال، مصداقا لقوله تعالى:” وما قدروا الله حق قدره”(الزمر:67). قال الإمام الشوكاني:” والمعنى أنها ذات قدر لنزول القرآن فيها، أو لما يقع فيها من نزول الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر”(نيل الأوطار:4/276).
فجاءت عظمتها مما كان فيها. ومما كان فيها:
نزول القرآن الكريم في ليلتها.
نزول الملائكة.
ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة.
الذي يحييها يصير ذا قدر.
فتحصل بمجموع هذه الأمور الأربعة عظمة هذه الليلة.
ب – التضييق: ومعنى التضييق في المراد منها: إخفاء العلم بها، وستر تعيينها، فضاق على الخلق الإحاطة بعلم وقتها تحديدا(الفتح:ابن حجر:4/300-301). ويشهد لمعنى القَدَرِ: التضييقُ، قوله تعالى: ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله(الطلاق:7).
ج – القَدَر: الذي هو سَمِيُّ القضاء عند الذكر. أما القَدَر فهو علم الله بما كان؛ وما هو كائن؛ وما سيكون. وأما القضاء: فهو قدرة الله على إنجاز قَدَرِه. فالقدر له تعلق بصفة العلم، والقضاء له تعلق بصفة القدرة. فما قَدَّره الله تعالى بعلمه في الأزل فهي أقداره في الخلق. وما أُنجز من قَدَر الله تعالى في حياة الناس؛ فهي قدرته على إنجاز أقداره.
والمقصود منه أن الله تعالى يقدِّر في هذه الليلة ما يكون من مقادير الخلق في تلك السنة. فليلة القدر ليلة تقسيم مقادير الناس عليهم بعلمه الذي وسع كل شيء. وفي هذا المفهوم يقول الإمام النووي: “قال العلماء: وسميت ليلة القدر لما يكتب فيها الملائكة من الأقدار والآجال التي تكون في تلك السنة، كقوله تعالى:” إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَرَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فيها يفرق كل أمر حكيم”(الدخان:3-4) وقوله تعالى: “تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر”(القدر:4). ومعناه: يظهر للملائكة ما سيكون فيها، ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم، وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وتقديره”(شرح صحيح مسلم: النووي:8/ص57).
ليلة القدر : المقاصد والعبر
لليلة القدر من المقاصد والعبر والدلالات ما يجعلها تبقى على مر السنين والأجيال مفتوحة على القراءات المتجددة فيها. ينهل المسلمون من معينها لتجديد العهد وإحياء الصلة بهدي الوحي ومشكاة النبوة. وسنقف في هذه القراءة عند بعض عبرها ومقاصده مما نعتقده ذا قدر كبير وشرف سامق، للباحثين عن المعالي، العاشقين لكل رفعة وسمو. ومن هذه المقاصد ما يلي:
ليلة القدر : ليلة القرآن الكريم
إن أيام الله واحدة، ولكن بعضها يحوز الشرف بسبب عمل صالح للإسلام وقع فيها، أو خير عميم للناس حصلوا عليه في ذلك اليوم أو قاموا به. وهذه الأيام الفاضلة هي التي تعد من أيام الله الواجب التذكير بها وتذكرها والحديث عنها والاستبشار بها، لقوله تعالى:” وذكرهم بأيام الله”(إبراهيم:07)، وهي من النعم التي ينبغي التحدث بها، لقوله تعالى:” وأما بنعمة ربك فحدث”(الضحى:11).
ولقد شرفت هذه الليلة وحازت عظيم الشرف بنزول كلام الله تعالى إلى البشرية، وتلك نعمة من أعظم النعم على العالمين. هذا الكلام الرباني الذي حازت به الليلة الشرف والمقام العلي، إنما كان بسبب خمسة أمور عظيمة، وهي:
أنه كلام الله تعالى الذي استقبلته البشرية بعد ضلال وجاهلية.
أن هذا الكلام أرسله تعالى مع أفضل من يوجد في السماء وهو جبريل عليه السلام:” نزل به الروح الأمين”(الشعراء:193).
أن هذا الكلام أرسله الله تعالى مع أفضل من يوجد على الأرض من الخلق، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
أن الله تعالى أرسل كلامه في خير أشهر السنون، وهو رمضان.
أن الله تعالى اختار من هذا الشهر الكريم أفضل أيامه ولياليه، وهي ليلة القدر. فهي إذن ليلة القدر والشرف والمنزلة العالية بنزول القرآن الكريم الذي اجتمعت حوله هذه المؤيدات العظيمة الخمسة السالفة. فكان شرفها بما نزل فيها، ولهذا عرف الله تعالى رمضان بالشرف الذي نزل فيه فقال:” شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن”(البقرة:185). فمن أراد أن يحصل شرف ليلة القدر فليكن سبيله إليه الذي شرفت به. فكما شرفت ليلة القدر بالقرآن الكريم، فإن كل شخص أو جماعة أو أمة بإمكانها نيل الشرف والمنزلة الرفيعة في الدنيا والآخرة بهذا القرآن العظيم.
ليلة القدر: ليلة الملائكة
ويحق لنا أن نعتز بهذه الليلة وأن نحتفل بها لنزول ملائكة الرحمان فيها، إنهم ينزلون إلى الأرض ومعهم سيدهم جبريل عليه السلام، أمين كلام الله تعالى إلى خلقه. وإنها لنعمة كبيرة أن يحضر المسلم اجتماعا يضم الصالحين والعابدين الأطهار ويكون معهم. فهذه الليلة تشهد نزولهم جميعا كي يكونوا مع المسلمين الموحدين، ويحضرون تسبيحهم وصلاتهم وقيامهم وذكرهم لربهم، قال تعالى:” تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر”(القدر:4). هذا الاحتفال المهيب الذي تضيق الأرض بهم، لا ينبغي أن يعزب عن البال فضله وقدره، كما لا ينبغي أن يشوش عليه بما يعكره من البذاذة والتشعث وسوء الخلق، لكونه مشهود.
ليلة القدر: ليلة إني أعلم ما لا تعلمون
إن نزول الملائكة في هذه الليلة المباركة من الأدلة البارزة على صدق علم الله تعالى العليم الحكيم، وعلى عدم سداد قول الملائكة في الإنسان حين اعترضت على خلقه بعلتين اثنتين، هما:
1 – الإفساد في الأرض: أتجعل فيها من يفسد فيها”(البقرة:29).
2 – سفك الدماء:” ويسفك الدماء”(البقرة:29). فكان إنزالها بأمر الله تعالى كي تعلم أن لله عبيدا يسبحون ويقدسون ويهللون ويمجدون ويذكرون ويدعون، ويحيون ليلتهم في الصلاة والمناجاة والتهجد، فيستيقنوا في الأرض كما استيقنوا في السماء قوله تعالى لهم:” إني أعلم ما لا تعلمون”(البقرة:29).
ليلة القدر: ليلة البعد عن التلاحي
ولا يعني بحال أن التلاحي جائز في غير هذه الليلة، وإنما المقصود أن هذه الليلة المباركة العظيمة، لا يحسن ولا يليق جعلها للتلاحي والمخاصمة، فإن الوزر فيها أفحش من غيرها، وكفى إثما وفسادا أن يكون الخصام سببا في رفع بركة معرفتها. ولذلك بوب الامام البخاري في صحيحه في كتاب ليلة القدر على أن الخصام سبب في رفع العلم، فقال: باب رفع ليلة القدر لتلاحي الناس، ثم ذكر حديث عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يُخْبِر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين(أي تخاصما)، فقال:” إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان، فَرُفِعَت، وعسى أن يكون خيرا لكم، التمسوها في السبع والتسع والخمس”(صحيح البخاري: كتاب الإيمان: باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر). وفي رواية الشيخين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” يا أيها الناس، إنها كانت أُبِينت لي ليلة القدر، وإني خرجت لأُخبركم بها، فجاء رجلان يحتقان، معهما الشيطان فنسيتها”.
ومعنى يحتقان: أن كل واحد منهما جاء يطلب حقه وأنه هم المحق. إنها ليلة صافية لا تقبل تلويثها بمنكرات الأعمال والأقوال، ليلة صافية النهار لا شعاع فيها ولا تكدر كما جاء في الخبر، فعن زر، قال: قلت لأُبَي، أخبرني عن ليلة القدر، فإن عبد الله، يقول: من يقم الحول يصبها. قال: يرحم الله أبا عبد الرحمن إنه ليعلم أنها في رمضان ولكن عَمَّى على الناس حتى لا يتكلوا، والله إنها ليلة سبع وعشرين. فقلت: أبا المنذر، أَنَّى علمت ذلك؟ قال: بالآية التي أنبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعددنا وحفظنا أنَّهَا لَهِيَ. قال عاصم: قلت لزر: ما تلك الآية؟ قال: طلوع الشمس بيضاء كالطست ليس لها شعاع حتى ترتفع. قال: فرمقتها مرارا كذلك”(المعجم الكبير للطبراني).
وقد استفاد ابن العربي المعافري من هذا الحديث النبوي علة ذلك فقال:” ثم أنبأ عنها(أي أنبأ رسول الله عليه الصلاة والسلام عن ليلة القدر) بعلامة وهي طلوع الشمس بيضاء لا شعاع لها، يعني من كثرة الأنوار في تلك الليلة”(أحكام القرآن: ابن العربي:4/ص434). فلتكن هذه الليلة ليلة صفاء القلوب من كل الأمراض: كالكبر والحقد والحسد والعجب والغيبة .الخ. فإن في صفاء هذه الليلة بالبعد عن التلاحي وما جاوره من الموبقات تدريب للمسلم على أن يكون هذا خلقه في باقي أيام السنة. فمثل هذه الأخلاق السنية هي الأولى أن تكون رفيق عمر الانسان. وإنها ليلة الوجوب المؤكد أن يمحو المسلم ما في الصدر من غل، وما في النفس من موجدة على الناس. وأن يقابل صفاء يومها بصفاء القلوب مع بعضها، وليسبق صفاء يومها صفاء المؤمنين في ليلتها.
ليلة القدر: ليلة الاستدراك
وقد جعل الله عز وجل للخلق محطات استدراكية لمن فاته خير أو ضيع خيرا، فجعل هذه الليلة من أعظم الدورات الاستدراكية لمن أراد الصلاح ونيل الأجر عميما. فمن كان حصل له في عبادته لربه نقص وضعف وتفريط خلال ما مضى من سنته أو عمره، فهذه ليلة القدر منحة إلهية وعطية ربانية له أن يستدرك الذي فاته. ومَنْ مِنَ الخلق يزعم الكمال في عبادته لربه؟ ومَنْ مِنَ العابدين لم يحصل في طريقه تشويش وفتور أو ضعف عن القيام بحق الشكر؟ من أدرك ليلة القدر وأحياها وقامها كان أجره فيها كأجر العامل ألف شهر في الطاعة(أي ما يعادل83سنة و4أشهر)، بل أفضل من العامل في هذه المدة، قال تعالى:” ليلة القدر خير من ألف شهر”.
إن المسلم السالك إلى الله تعالى قد يذنب في حقه ويسرف بالمعاصي على نفسه، وقد يطول الإسراف والولوغ في الذنوب ومبارزة المولى بالقبائح، فإذا أراد الأوبة والعودة إلى الرشد فإنه واجدٌ أمامه الأيام الفاضلة مجالا لتعويض النقص وسداد الثغرات. وإن في ليلة القدر من البركات لتعويض الليالي الضائعة والأيام الخالية ما يعجز عن الإحاطة “وما أدراك”. وهذه الليلة باب من أبواب رحمة الله بعباده.
ليلة القدر: ليلة الوتر من العشر الأواخر
إن ليلة القدر هي الليلة التي تكون في الوتر من العشر الأواخر من رمضان: في الواحد والعشرين؛ أو الثالث والعشرين؛ أو الخامس والعشرين؛ أو السابع والعشرين؛ أو التاسع والعشرين. ولقد أخفيت في الوتر من العشر الأواخر حتى لا يحصل الفتور عند التعيين، بحيث يكون الاجتهاد في التي عينت أكبر منه في الليالي التي لم تعين، وقد تتعرض باقي الأيام للإهمال. وهذا ملحظ بعض الصحابة، حتى ذهب البعض منهم أنها في العام كله، ففي صحيح مسلم أن زر بن حبيش قال: سألت أبي بن كعب فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يَقُمْ الحول يصب ليلة القدر، فقال: رحمه الله، أراد أن لا يتكل الناس ..”الحديث.
ليلة القدر: ليلة السابع والعشرين
ولقد اتجهت إرادة الأمة إلى ليلة السابع والعشرين، فاجتمعت قلوبها وممارستها عند هذه الليلة. وإن إرادتها واجتماع قلوبها لمن الأدلة التي ترجح أنها السابع والعشرين. ولهذا أقسم عليها أبي بن كعب رضي الله عنه كما في الصحيح، حيث قال:” والله إني لأعلمها يحلف ولا يستثني ، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين”(صحيح مسلم: كتاب الصيام: باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها)
هذا الإجماع القلبي والعملي من المسلمين عبر الزمان والأمكنة، والذي انضاف إليه مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وعلماء الإسلام، يجعل الليلة راجحة في السابع والعشرين، لقوله تعالى:” ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى”(النساء:114)، وقوله صلى الله عليه وسلم:” ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن”(رواه الإمام أحمد)، وقوله:” لا تجتمع أمتي على ضلالة”(رواه الترمذي).
وهذه القرائن هي التي دفعت النبي صلى الله عليه وسلم إلى القول فيما صح عن ابن عمر أنه قال:” إن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد توطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر”(رواه البخاري ومسلم). فهذه الإجماع من الأمة مع تواطأ رؤيا الصحابة وتشوف نفوس الأجيال إلى هذه الليلة من مرجحات القول أنها ليلة السابع والعشرين.
أحمد كافي