شد الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك للاعتكاف والقيام فيه – تيسير رجب التميمي
وفي رمضان ما زلنا نسارع في الخيرات ونسابق بالطاعات ونستزيد من القربات ، وإنه موسم ننتظره من العام إلى العام ، نصوم فيه ونقوم ، وبتلاوة القرآن نناجي الحي القيوم ، فقيام الليل سنة مستحبة في كل الأوقات ، حثنا ربنا عز وجل عليها في مواضع شتى من القرآن الكريم : فوصف سبحانه المتقين بقوله تعالى { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ، وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } الذاريات 17-18 ، وبقوله { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقَناُهُمْ يُنْفِقُون } السجدة 16 ، وتمهيداً لحمل الرسالة فقد أمر عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل فقال سبحانه { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا } المزمل 1-5 ، وخاطبه أيضاً بقوله { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } الإسراء 79 .
والقيام يكون في أي وقت من الليل ، بينما التهجد يكون القيام إلى الصلاة من النوم ، وهو من أفضل القيام وأكثره ثواباً ، ويبدأ وقته من بعد صلاة العشاء إلى أذان الفجر ، قالت عائشة رضي الله عنها { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء – وهي التي يدعو الناس العتمةَ – إلى الفجر … } رواه البخاري .
استجاب صلى الله عليه وسلم لأمر ربه فقام الليل، قالت عائشة رضي الله عنها { كان النبي يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، فقلت له لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال أفلا أكون عبداً شكوراً } رواه البخاري ، وقال حذيفة رضي الله عنه { صليت مع النبي ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مُتَرَسلاً إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوّذٍ تعوّذ … } رواه مسلم
وحثنا صلى الله عليه وسلم على القيام فقال { أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل } رواه مسلم ، ورغَّبنا به فقال {عليكم بقيام الليل فإنه دأبُ الصالحين قبلكم وقربةٌ إلى الله تعالى ومكفرةٌ للسيئات ومَنْهاةٌ عن الإثم ومَطْرَدَةٌ للداء عن الجسد } رواه الترمذي ، وقال صلى الله عليه وسلم { إن في الجنة غرفاَ يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام و أدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام } رواه البخاري .
ويتأكد استحباب قيام الليل في شهر رمضان المبارك ، قال صلى الله عليه وسلم { من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه } رواه البخاري ، وقيام رمضان يكون بصلاة التراويح التي واظب المسلمون على أدائها عبر العصور والأجيال كونها سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي شعار من شعارات المسلمين في رمضان، ومن أعظم العبادات التي يتقرب بها العبد إلى ربه فيه ، حيث يجتمع له في هذا الشهر جهاد النفس نهاراً بالصيام ، وجهادها ليلاً بالقيام .
والتراويح جمع ترويحة ، سميت بذلك لأنهم يستريحون بين كل تسليمتين ، ويبدأ وقتها من بعد صلاة العشاء إلى الفجر، وأداؤها في آخر الليل أفضل من أوله لمن تيسر لهم ، ومن صور أدائها أن تصلى إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة كقيام الليل وهو ما واظب عليه صلى الله عليه وسلم ، فقد سئل عليه الصلاة والسلام عن قيام الليل فقال { صلاة الليل مثنى مثنى … } رواه البخاري ، وقالت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره عن إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً } رواه البخاري ، ولم يصح حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم غيره في عدد ركعات صلاة التراويح ، ولكن لا حرج على من قام بأكثر من ذلك لأنها أُثرت عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين رحمهم الله ، قال عبد الرحمن بن عبد القارِّيّ { خرجت مع عمر ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاعٌ متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب، ثم خرجتُ معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمت البدعة هذه! والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون- يريد آخر الليل- وكان الناس يقومون أوله } رواه البخاري .
وتشرع صلاة التراويح جماعة في المساجد ، قالت عائشة { صلى الرسول صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة، أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله ، فلما أصبح قال : قد رأيتُ الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم ، قالت عائشة : وذلك في رمضان } رواه البخاري .
ويجوز للنساء حضور التراويح في المساجد . والسنة لهن أن يتأخرن عن صفوف الرجال فيبدأن بالصف المؤخر فالمؤخر ، وأن ينصرفن من المسجد فور تسليم الإمام ولا يتأخرن إلا لعذر ، قالت أم سلمة رضي الله عنها { كان النبي إذا سلّم قام النساء حين يقضي تسليمه، وهو يمكث في مقامه يسيراً قبل أن يقوم قالت نرى – والله أعلم – أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال } رواه البخاري . وهنا أنبه المصلين من الرجال إلى الانتظار قليلاً حتى يكتمل خروج النساء ، فإننا للأسف نرى اليوم أن الجميع رجالاً ونساء يخرجون من المسجد دفعة واحدة مما يتسبب في الازدحام وبالأخص في المساجد التي لها مدخل واحد فقط .
ولا حد لقراءة القرآن في التراويح ، واستحب العلماء أن يُخْتَمَ في قيام رمضان ليسمع الناس كل القرآن في شهر القرآن ، وكره بعضهم الزيادة على ذلك ، فقد روى السائب بن يزيد أن { عمر بن الخطاب أمر أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس إحدى عشرة ركعة ، وقال : كان القارئ يقرأ بالمائتين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام ، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر } رواه مالك ، ويرى جمهور العلماء أن أداء التراويح في المسجد أفضل ، وألاَّ ينصرف منها إلاَّ بانصراف الإمام .
وفي شهر رمضان عبادة أخرى وشعيرة هي من شعاراته ، إنها عبادة الاعتكاف ، والاعتكاف هو لزوم المسجد واللبث فيه بنية التقرب إلى الله تعالى ، وأقله لحظة ، فمن دخل المسجد بنية الاعتكاف مادام فيه فهو معتكف ، ويستحب ألا يقل عن يوم وليلة .
وهو سنة في جميع الأوقات من العام وسنة مؤكدة في رمضان ، وهو في العشر الأواخر آكد اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وطلباً لليلة القدر ، يدل على ذلك فعله صلى الله عليه وسلم ومداومته عليه تقرباً إلى الله وطلباً لثوابه ، قالت عائشة رضي الله عنها أنه { كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده } رواه البخاري ، ويرى الحنفية أن معنى سنة مؤكدة أي سنةَ كفايةٍ في العشر الأواخر من رمضان فإذا قام بها بعض المسلمين سقط الطلب عن الباقين فلم يأثموا بالمواظبة على الترك بلا عذر ، ولو كان سنةَ عينٍ لأثموا بترك السنة المؤكدة إثماً دون إثم ترك الواجب
ويصبح الاعتكاف واجباً إذا نذره المسلم على نفسه لقوله صلى الله عليه وسلم { من نذر أن يطيع الله فليطعه … } رواه البخاري، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم { يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أوف نذرك ، فاعتكفَ ليلة } رواه البخاري
ويصح الاعتكاف من الرجل والمرأة والصبي المميز، ويشترط للمتزوجة أن يأذن لها زوجها وأن تستتر في مكان لا يصلي فيه الرجال ، قالت عائشة رضي الله عنها { كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله، فاستأذنتْ حفصة عائشة أن تضرب خباء فأذنتْ لها فضربت خباء ، فلما رأته زينب ابنة جحش ضربتْ خباء آخر، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم رأى الأخبية فقال ما هذا ؟ فأُخْبِرَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألبر ترون بهن ؟ فترك الاعتكاف ذلك الشهر ثم اعتكف عشراً من شوال } رواه البخاري
والحكمة من الاعتكاف أن فيه تسليم النفس بالكلية إلى عبادة الله طلباً للتقرب إليه وإبعاداً للنفس عن مشاغل الدنيا التي تمنع العبد من الطاعات ، وفيه أيضاً استغراق المعتكف وقته في الصلاة لأن المقصد الأصلي من مشروعية الاعتكاف هو انتظار الصلاة في الجماعات ، وفيه يشبّه المعتكف نفسه بالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ويسبحون الله ولا يفتُرون .
وللمعتكف قطع اعتكافه المستحب متى شاء . ويبطل بالخروج من المسجد لغير حاجة ، قالت عائشة { كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يَدخل البيت إِلا لحاجة الإنسان إذا كان معتكفاً } رواه البخاري ، ولكن إذا طال خروجه فقد بطل الاعتكاف ، ولأن الاعتكاف عبادة فلا بد من تجديد النية إن عاد إلى المسجد ثانية للاعتكاف .
ويستحب للمعتكف أن يكثر من نوافل العبادات فيشغل نفسه بالصلاة وتلاوة القرآن والاستغفار والذكر والدعاء والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستحب له أيضاً اجتناب ما لا يعنيه من جدال ومراء ولغو وكثرة كلام وغيره، ويكره له فضول القول والعمل فينبغي له ألا يتكلم إلا بخير، ويكره له أيضاً الانشغال بغير العبادة .
ولا يصح اعتكاف الرجل إلا في المسجد لقوله تعالى { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود } البقرة 125 ، واتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يعتكف إلا في المسجد، وعند بعض العلماء يجوز للمرأة أن تعتكف في بيتها .
وخير المساجد للاعتكاف فيها المسجد الحرام ثم المسجد النبوي الشريف ثم المسجد الأقصى المبارك لفضل العبادة في هذه المساجد على غيرها ، قال صلى الله عليه وسلم { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا } رواه البخاري ، فمن استطاع الاعتكاف في أحد هذه المساجد فليسارع في ذلك في هذا الشهر الفضيل .