سبيل الاستقامة

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على اشرف المرسلين وعلى اله وصحبه أجمعين

في هذه الكلمة التوجيهية اخترت كعادتي من خلال وقوفي على بعض المعاني أن أتحدث عن الاستقامة انطلاقا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي عمر سفيان بن عبد الله الثقفي قلت :”يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك قال قل أمنت بالله ثم استقم”، رواه مسلم، وروي عن سفيان بن عبد الله من وجوه أخرى بزيادات أخرجه الإمام احمد والترمذي وابن ماجة من رواية الزهري عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز قال :”قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، قال قل ربي الله ثم استقم، قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي فأخذ بلسان نفسه قال هذا”، قال الترمذي حسن صحيح، وأخرج الإمام أحمد والنسائي عن رواية بن سفيان الثقفي أن رجلا قال يا رسول الله مرني في الإسلام أمرا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال قل آمنت بالله ثم استقم، قلت فما أتق؟ فأومأ إلى لسانه”، وقول سفيان بن عبد الله للنبي قللي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعده طلب منه كلاما جامعا لأمر الإسلام كافيا حتى لا يحتاج بعده إلى غيره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قل أمنت بالله ثم استقم، وفي الرواية الأخرى قل ربي الله ثم استقم، ونجد ذلك في قوله عز وجل :”إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا وتحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون”، وقوله عز وجل :”إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون”، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في تفسيره، ثم استقاموا، قال لم يشركوا بالله وعنه قال لم يلتفتوا لغيره، وعنه قال ثم استقاموا على أن الله ربهم، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية على المنبر فقال لم يروغوا روغان الثعلب، وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ثم استقاموا قال استقاموا على أداء فرائضهم، وقال تعالى:”فاستقم كما أمرت ومن تبعك ولا تطغوا انه بما تعملون بصير”، فأمره أن يستقيم هو ومن تاب معه وإلا يجاوزوا ما أمروا به وهو الطغيان، وأخبر أنه بصير بأعمالهم مطلع عليها، قال تعالى فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهوائهم ، قال قتادة : أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يستقيم على آمر الله وقال الثوري على القرآن، وقال عز وجل :”قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه، وقد أمر الله تعالى بإقامة الدين عموما كما قال :”شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه”، وأمر بإقامة الصلاة في غير موضع من كتابه كما أمر بالاستقامة بالتوحيد في تلك الآيتين.

والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم وهو الدين القيم من غير تعريج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة وترك المنهيات كلها كذلك فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها، وفي قوله عز وجل فاستقيموا إليه واستغفروه إشارة إلى أن لا بد من تقصير في الاستقامة المأمور بها ويجبر ذلك بالاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة وهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاد :”اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وقد اخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس لن يطيقوا الاستقامة حق الاستقامة كما أخرجه الإمام احمد وابن ماجة من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :”استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن”، وفي رواية للإمام أحمد سددوا وقاربوا ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن”، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “سددوا وقاربوا فالسداد هو حقيقة الاستقامة وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد كالذي يرمي إلى غرض فيصيبه”، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن يسأل الله عز وجل السداد والهدى وقال له اذكر بالسداد تسديدك السهم وبالهدى هدايتك الطريق، والمقاربة أن يصيب ما قرب من الغرض إذا لم يصب الغرض نفسه، ولكن بشرط أن يكون مصمما على قصد السداد وإصابة الغرض، فتكون مقاربته عن غير عمد ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الحكم بن حزم الكلفي:” أيها الناس إنكم لن تعملوا أو لن تطيقوا كل ما أمرتكم ولكن سددوا وابشروا والمعنى اقصدوا التسديد والإصابة والاستقامة فإنهم لو سددوا في العمل كله لكانوا فعلوا ما أمروا به كله، ولفظ الاستقامة ورد في القران الكريم في عشرة مواضع في صيغة الفعل، من ذلك قوله سبحانه وتعالى :”فاستقم كما أمرت”، وورد وصفا للصراط في 35 موضعا ومن ذلك قوله تعالى :”ويهديك صراطا مستقيما”، وورد وصفا للقسطاس في موضعين فقط أحدهما قوله عز وجل :”وزنوا بالقسطاس المستقيم”، ولم يأت هذا اللفظ بصيغة الاسم الاستقامة في القران، وقد ورد في القران على أربعة معان :

الأول بمعنى الثبات والدوام على الدعوة إلى الدين، من ذلك قوله تعالى “فاستقم كما أمرت”، قال ابن كثير يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، ونحو ذلك قوله عز وجل :”فادع واستقم”، قال البغوي : اثبت عل الدين الذي أمرت به، وعلى ذلك أيضا يفسر قوله تعالى قال :”قد أجيبت دعوتكما فاستقيما”، قال الطبري فإنه أمر من الله تعالى لموسى وهارون بالاستقامة والثبات على أمرهما من دعاء فرعون وقومه إلى الإجابة إلى توحيد الله وطاعته، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قوله فاستقيما: فامضيا لأمري وهي الاستقامة وكذلك قال ابن كثير في معنى الآية.

والثاني بمعنى الثبات على التوحيد، كقوله سبحانه :”إن الدين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ” أي ثبتوا على توحيد الله ولم يخلطوا توحيد الله بشرك غيره معه، وقد روى الطبري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا” قال قد قرأها الناس ثم كفروا فمن مات عليها فهو ممن استقام، وروى الطبري أيضا عن سعيد بن عمران قال قرأت عند أبي بكر الصديق هذه الآية “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا” قال هم الذين لم يشركوا بالله شيئا، وروي أن المراد من هذه الآية الثبات والدوام على طاعة الله وهو قريب من معنى الثابت عن التوحيد قال ابن كثير عملوا بطاعة الله على ما شرع لهم، وقد روي كما سبق عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ على المنبر قوله سبحانه “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا” قال استقاموا لله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعلب.

المعنى الثالث : الثبات على طاعة الله والتزام أحكامه ومن ذلك قوله تعالى :”أن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا”، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله “وأن لو استقاموا على الطريقة” يعني بالاستقامة أي الطاعة، أي لو ثبتوا واستداموا على طاعة الله لأستقيناهم ماء نافعا كثيرا، وفي الآية معنى ثان ذكره ابن كثير حاصله أن أهل الضلال لو استمروا على ضلالهم لأوسعنا عليهم الرزق استدراجا لهم، وعلى كلا المعنيين يبق معنى الاستقامة هنا الدوام والاستمرار ولكن المعنى الأول هو الأرجح وهو الثبات والدوام على الطاعة، ويؤيد هذا المعنى قوله :”ولو أن أهل القرى امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض” وعلى المعنى الثاني الثابت على الضلال والكفر ويؤيد هذا المعنى قوله سبحانه :”فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء”.

المعنى الرابع بمعنى الوفاء بالعهد والثبات عليه، وذلك في قوله سبحانه :”فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم”، قال قتادة فلم يستقيموا نقضوا عهدهم وقال الطبري أمر الله سبحانه نبيه والمؤمنين بإتمام العهد لمن كانوا عاهدوا في المسجد الحرام فما استقاموا على عهدهم: وقال ابن كثير إن تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبنيهم فامضوا على ما عهدتموهم عليه.

والذي نخلص إليه مما تقدم أن لفظ الاستقامة في القران يفيد معنى الثبات على الأمر والدوام والاستمرار عليه بشكل أساس، أما صرفه إلى الثبات والدوام على هذا الأمر أو داك فهو أمر يحدده السياق القرآني وترشد إليه أثار السلام، وهنا نقف مجددا على حديث سددوا وقاربوا وابشروا فعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” سددوا وقاربوا وابشروا فانه لن يدخل الجنة أحد عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل”، قال النووي في شرح صحيح مسلم ومعنى سددوا وقاربوا اطلبوا السداد واعملوا به وإن عجزتم عنه فقاربوه أي اقتربوا منه والسداد هو الصواب وهو بين الإفراط والتفريط، فلا تغلوا ولا تقصروا، وقال الحافظ في فتح الباري في بيان معنى السداد اقصدوا السداد أي الصواب وقال اعملوا واقصدوا بعملكم الصواب، أي اتباع السنة من الإخلاص وغيره ليقبل عملكم فتنزل عليكم الرحمة، وقال في معنى وقاربوا أي لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة لألا يفضي ذلك بكم إلى الملام فتتركوا العمل فتفرطوا، وقوله صلى الله عليه وسلم وابشروا أي إذا قمتم بما أمرتم به من سلوك سبيل السداد فأبشروا بالثواب الجزيل، الذي يتفضل الله به على من أخلص له العبادة وصار على الصراط المستقيم الذي بعث به الله رسوله الكريم عليه الصلاة والتسيلم، وقال واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه ولو قل دال على أن العمل الذي يدوم عليه فاعله ولو كان قليلا هو أحب العمل إلى الله وذلك أن العبد إذا داوم على الأعمال الصالحة فهو حري أن يختم الله له بخير، فإنه إذا وافاه الأجل يوافيه على حالة حسنة، بخلاف الذي لا يداوم على العمل الصالح وينقطع عنه فقد يوافيه اجله وهو في حالة الترك.

واخترت أن اختم بخاتمة لشيخ الصوفية في المغرب الزروق من كتاب الإعانة في خاتمته وهو يتحدث عن الاستقامة وهو كتاب غني، قال وفقك الله وإيانا لما يصلح ديننا ودنيانا ورزقنا اتباع الحق في متقلبنا ومثوانا، إن التوبة مفتاح والتقوى براح والاستقامة إصلاح، والعبد لا يخلو من زلة أو تقصير أو فترة فلا تكن منك غفلة عن التوبة ولا إعراض عن الأوبة ولا إهمال للقربة، بل كلما وقعت فتب وراجع وكلما أخطأت فاسمع وأطع وكلما قصرت أو فترت فلا تنقطع، وليكن همك في تخلية ظاهرك عن القبائح ثم في إقامة رسمه بوجود النصائح حتى إذا صار لك الفرار من القبائح ملكة والوقوف على الحدود شبكة توجه بقلبك بالاحذار ولحقيقته بالفكر والإنكار، ولا تعجل للنهاية قبل تمكن البداية ولا تقف مع البداية دون تطلع للنهاية فإن من طلب بداية في نهاية فاتته العناية ومن طلب نهاية في بداية فاتته الهداية، واعمل بالقواعد والأحكام لا بالحكايات والأوهام، ولا تلتفت للحكايات إلا من حيث التقوية على ما تريده لا بالأخذ بما تقتضيه من الصور أو تفيده واهجر الهجر جملة واطرح ما لم تستشعر فائدته لأول وهلة وإياك والتشديد على نفسك قبل إحكامها والترخيص لها في شيء من أحكامها فإنها تفر من الوسط أبدا وتريد الاستقصاء في الغي والهدى واطلب صديقا تستعين به على أمرك وتفارضه فيما يعرضه من سرك وجهرك، فإذا صحبته فعامله على قدر حاله وتفاوضه من نفسك على قدر نقصه وكماله، لأن الصديق الكامل معدوم، والرفيق الموافق في هذه الأزمنة قل أن يدوم، واحذر الكافة على دينك ودنياك إلا لمتحقق فيه وجود نسبة الصحيحة لمولاك بعلم لا يصحبه هوى ولا رئاسة وعقل سليم من آفات السياسة، ولا تغفل عن مكر الناس وخفايات أحوالهم واعتبر ذلك من أصولهم وأعمالهم فالأصيل لا يأتيك غالبا إلا بخير والدخيل هون عليك أصله عند عون السير، وراعي في كل بلد ما يغلب على أهله، فلا تغفل عن حكمة الله في الخلق ولاحظ الجمع في عين الفرق وصاحب الوقت في الموافقة بالرفق والاحتمال وإياك والغلظة والاسترسال فان الاسترسال في المباحات يجذب القلوب إلى الخلف ويصير الرجل الحازم كالولد الخلف، واعمل لدنياك كأنك حي أبدا واعمل لآخرتك كأنك ميت غدا، فلا تهمل ظاهر دنياك ولا تغفل عن متقلبك ومثواك، واحذر الرئاسة جهدك فإن بليت بها فاعرف قدرك وحدك وانصح لله من يعلم أنه طالبه واستسلم لحكم استسلام من يعلم أنه لا يغالبه، واجعل لكل شيء عتادا تنجو من الآفات ورتب أوراد ذكرك وأورادك تجد بركة الأوقات، ولا تتعصب في حق ولا باطل تبق سليم الصدر ولا تدع ما تستحقه فضلا عن غيره تنجو من المكر والغدر فان من ادعى فوق رتبته حط لدونها ومن ادعى غير رتبته نوزع فيها ومن وقف دون ما يستحقه رفع فوق ما يستحقهـ ولا تعط الجليس من حالك إلا ما يقتضيه حاله فإنك إن تجاوزت حالك لحاله احتقرت وإن رجعت بحالك إلى حاله هجرتـ ولا تطلب أحدا بحق قريبا كان أو بعيدا لأن البعيد لا حق لك عليه والقريب أجل من أن توجه العتب إليه، ولا تظن أن في الدنيا ما يفهم عنك ما أنت فيه إلا بما هو فيه فأن كل أحد إنما يفهم ما يتبعه ويقتفيه، لكن إذا تقاربت المقاصد والهمم تعاونت النفوس بمواطئ القدم ولا تحتقر شيئا من ذكر الناس ومما لا باس به ما يداخله من الباس واحفظ سرك وإن أمنت عليه إذ ليس بآمن من قلبك من تبثه إليه، ولا تدع ذرة من وردك ولا تسمح فيه في حال قصدك وجدك بل إن فاتك في وقته استدركه في غيره وان لم تقدر على عينه اشغل وقتك ببدله على قدره، ولا تطع نفسك في لحظة ولا تصدقها فيما تدعيه لفظة واحذر العزم جهدك في  الأمور فإذا عزمت فبادر قبل أن تدور وفتش نفسك فيما وجب عليك وطلب وكل شيء أنت عنه في غنى فاتركه وان كان مما ندب، وذلك مما تدعوك الضرورة أو الحاجة المحققة للخوض فيه، وعامل الناس بما تحب أن تعامل به وتستوفيه ومأخذ ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اتق الله حيث كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم” ( كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)،  وقال عليه الصلاة والسلام ” (إن روح القدس نفذ في روعي أن نفسا لا تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب).

والحاصل أن التوبة والتقوى والاستقامة أصول الخيرات في الجملة، والحق واضح وتفاصيله جليلة والأمر لله والتوفيق بيده.

ذ. عبد الرحيم شيخي / سلسلة تبصرة

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى