رمضان شهر الفرص العظيمة. فكيف نغتنمها؟ – الحبيب عكي
لعل من أهم صفات الموفقين الناجحين، أنهم يتوكلون على الله ويعملون، يجتهدون بجد ويثابرون..، وأنهم أيضا يقظون وجاهزون دوما يستغلون الفرص ولا يفوتونها، بل يصنعونها فكيف إذا أتيحت لهم وعلى طبق من ذهب رخصا وجوائز من الله.
والفرصة كما يقال هي الحصة كحصة المرء في الماء، هي الدور كدور الحصان في السباق ليبرز قوته وكفاءته، هي الوقت المناسب لفعل شيء مرغوب مع احتمال كبير ومؤكد لنجاحه وضمان عائده الإيجابي على أصحابه أفرادا وجماعات.
وما أخذ فقه الفرص هذا حظه في حياة فرد أو أمة إلا ارتقى بها ونهض بشؤونها الدينية والدنيوية، وما ابتليت أمة بتضييع الفرص وعدم تكافئها إلا أخلفت موعدها ووعدها مع ذلك. وفي الحديث: ” بادروا بالأعمال سبعا، هل تنتظرون إلا فقراً مُنسيًا، أو غنًى مُطغيًا، أو مرضاً مُفسدًا، أو هَرَماً مُفنِّدًا، أو موتاً مُجهِزًا، أو الدجال، فشر غائب ينتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمر “رواه الترمذي عن أبي هريرة، وقديما قيل: الفرصة تأتي مرة، الفرصة لا تعوض، في الصيف ضيعت اللبن، أو على قول المثل الدارج: ” فاتك الغرس قبل مارس”.
مناسبة هذه المقدمة أننا اليوم في هذه الأيام الطيبة المباركة، يستقبل الناس في مشارق الأرض ومغاربها شهر رمضان الفضيل، شهر الفرص الذهبية العظيمة، شهر العبادات والطاعات والخيرات والبركات، شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار كل يوم وليلة، شهر ليلة القدر ومضاعفة الأجر بما قد يساوي 82 عاما أو يزيد.
وبطبيعة الحال، فكل عاقل يفكر كيف سيغنم في هذا الشهر الفضيل ولا يخسر، كيف يكون رمضانه عبادة خالصة لله عزل وجل لا مجرد عادة استهلاكية هالكة وطقس تراثي فاسد. كيف سيحيى شهره الكريم بمقاصده التعبدية الصرفة من الصلاة والقيام والرحمة والمغفرة والسكينة والمودة والمراقبة والصدقة والتبتل والدعاء والاستغفار.. وكل جماع التقوى بعيدا عما يعكرها ويفسدها ويتجاوز بها إلى منطقة رمادية مكتوب على بابها بالبند العريض: “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش”، وفي بهوها الفسيح:” وإن صل وصام وزعم أنه مسلم”.
ترى ما هي أهم الفرص التي يحفل بها رمضان؟ وكيف ينبغي أن نغتنمها بعيدا عن المشوشات والمفسدات؟
إن رمضان في الحقيقة، كله فرص سنوية عظيمة ومتعددة، وفي مختلف المجالات الفردية والجماعية، التعبدية والاجتماعية، النفسية والفكرية، الروحية والجسدية، العملية والتنظيمية، التربوية والدعوية، الشعورية والتوحيدية، البدلية والعطائية..، وسنقتصر على بعضها، خاصة في مجال التربية والتزكية والتوبة والإنابة وهي أس وأساس غيرها من الأعمال، ومن ذلك:
- في مجال الإخلاص لله تعالى: وهو نقطة البداية وعليها تدور الدوائر، حيث يجدد الصائم نيته وعزمه على الصيام لوجه الله وحده، وابتغاء مرضاته وتمثلا لتقواه بمختلف مظاهرها وفي مختلف مجالاتها، ويتحمل من أجل ذلك ما يتحمل وهو راض.
- في مجال العبادات والطاعات: حيث يكون الصائم على موعد مع تجديد شعائره التعبدية وتنظيمها والحرص عليها بحماسة، كالسعي إلى المسجد وصلاة الجماعية، تلاوة الورد القرآني وحضور الدروس والمواعظ، قيام الليل والتراويح، الدعاء والتبتل والاستغفار..
- في مجال السلوكات والمعاملات: حيث تنضبط معاملات الصائم لشرع ربها فتكون رحمة وثوابا عليه وعلى عباد الله الصالحين، حيث التحكم الكبير للصائم في النفس وضبط نوازعها، فلا تؤذي غيرها بل قد تتحمل منه الأذى : ” فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني صائم” متفق عليه.
- في مجال العلم والفكر والدعوة: حيث تنشط دروس الوعظ والإرشاد في المساجد، والمحاضرات والندوات في دور الشباب، والخيام الثقافية والمسابقات والدوريات والأمسيات في الجمعيات، والبرامج الحوارية والمحورية في الفضائيات، وكلها مظهر من مظاهر الاحتفاء الجماعي والاجتماعي بشهر الصيام وإحياء فقهه القرآني وطقسه الروحاني.
- في مجال الأنشطة الاجتماعية: حيث الإفطارات الجماعية والصدقات للمحتاجين، قفة رمضان للأرامل وكسوة العيد للأيتام، على سنة رسول الله وهو أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان وهو كالريح المرسلة.
- في مجال الاهتمام بقضايا الأمة: حيث ينمو الشعور بوحدة المسلمين وأن أمتهم واحدة وقضاياهم واحدة، وعلى رأسها قضية فلسطين المسلمة وما زالت تعانيه من الاستيطان الصهيوني الغاشم، وتماما كما أن صيام المسلمين وقيامهم وصلاتهم وقبلتهم وإمساكهم وإفطارهم واحد، فالمحظوظ المحظوظ من تتاح له فرصة الصيام ولو مرة واحدة مع شعب من الشعوب الإسلامية ليطلع على عاداتها الإسلامية العريقة وعلى ثرائها الحضاري.
وتظل كل هذه المقاصد الرمضانية ذات عائد تعبدي كبير أساسي وحاسم في تجويد حياة الأفراد والجماعات والأمة والإنسانية ككل، وتنمية قيمها الفردية والجماعية، الروحية والجسدية، الوحدوية والتضامنية. ويظل لها أجر كبير وثواب عظيم يحقق للصائمين المخلصين الرحمة والمودة والمغفرة والرضوان والتهذيب والتأديب والخشوع والتشوق إلى نيل الأجر المضاعف والشفاعة ودخول الجنة من باب الريان. ولكن، يظل تحقيقها بأي قدر كان رهينا بضرورة تجنب بعض المفسدات والمشوشات وضرورة توفر بعض الشروط الأساسية والمحفزات التفاعلية ونذكر من كل ذلك:
- ضرورة الإيمان: فعن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: ” مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه” متَّفق عليه. أي من صام شهر رمضان إيمانا بالله، مصدقا بوعده، محتسبا ثوابه، قاصدا به وجه الله تعالى، لا رياء ولا سُمعة في صيامه ولوازمه، غُفِر له ما تقدم من ذنبه، وفي معنى حديث آخر أن الصائم يدخل الجنة من باب الريان وهو باب خاص بالصائمين. وإيمانا يعني يؤمن بفرضه وبركنه، وبمصدره الرباني، وبقصده التعبدي، وكل هذا مما ينبغي أن يحرر صيامه مما قد يعلق به من طباع العوائد الفاسدة على كثرتها وتعددها، قديمها وحديثها، وقد أشارت بعض الأحاديث إلى بعضها من مثل: عن أبي هريرة عن رسول الله وهو يروي عن ربه قال: ” كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنَّه لي، وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني صائم” متفق عليه.
- ضرورة الاحتساب: يعني احتساب الصيام لله تعالى، لأن المرء الصائم قد يجد في صيامه بعض العنت، ومن رحمة الله تعالى بعبده أن ذلك العنت مقدور عليه، ثم إن احتسابه لله تعالى سيجزل له الثواب الأوفى، وغير المقدور عليه فهو مرخص بفطره مع القضاء أو غير القضاء إذا استمر العجز، وكل هذا دافع أساسي ليتحمس العبد للعبادات وفعل الخيرات وترك المعاصي والتزام الطاعات، فلا يقعده عنها عجز أو فتور أو صحبة متراخية ولا يقعده مثلا برنامج إذاعي أو تلفزي أو لعبة ترفيهية أو حتى بيع أو شراء عن القيام للصلاة في وقتها، وعن تلاوة القرآن، وعن السعي إلى المسجد، وعن صلة الرحم والصدقة، وعن الإنفاق والخدمات الاجتماعية، وعن الإخلاص في العمل والصدق في المعاملات..، وهذا من شأنه أن يصحح العديد من الطقوس والعادات “المترمضنة” على صيامنا، وكلها مشوشة ولابد من ردها إلى حجمها وحكمها ووقتها إذا كان لها في الأصل وقت.
- تجنب المبطلات وموانع الربط: على قول إحداهن أن الصوم ارتباط وثيق بالله تعالى وهو أقوى من مجرد الارتباط بموقع إلكتروني باللغة الرقمية، ورغم ذلك هذا الارتباط لا يتم بمجرد الخطأ في كتابة العنوان أو نسيان حرف أو مجرد نقطة وما شابه، وكذلك المبطلات و المفطرات المادية والمعنوية التي تبعد الصائم عن أركان الصوم وشروط صحته ومقاصده وآثاره التربوية والاجتماعية، إلى درجة قد تجعل منه ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، كما جاء الحديث: ” الصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني صائم” متفق عليه”.
- تجنب إغراء التفاهة الإعلامية: من فضائيات وهواتف ذكية ولوحات وتطبيقات وغيرها من المنصات التي لا تلبث تقصف الصائمين بكل التفاهة أشكالا وأنواعا، وكثافة ومضامين وأوقات..، فطوبى لمن صام رمضان وقامه وتصدق فيه إيمانا واحتسابا ولم يقع ضحية لصوص رمضان هذه على حد قولهم: “تلفاز مله وسوق مهدر.. سهر حارم ومطبخ مغرق.. هاتف العبث وبخل التقتير.. مجالس لغو ومواقع تواصل غير متواصل..”، أو كما سار بذلك الظرفاء: ” رسوم لوث أفكار أبنائك.. وسيتكوم إنسى التراويح.. فمسلسل لا يوجد عندك وقت للقرآن.. فمسابقة تسحر وارقد مع العياء.. ليضحكوا عليك في النهاية بقولهم.. مبروك عليك، لقد فاتك رمضان ولا جائزة لك.. ههه”.
وأخيرا، تظل فلسفة الفرصة وفقه تحقيقها ضروريا وحاسما كما يقال، فالذي ليس يقظا ولا واعيا بالفرصة لا يسعى إليها ولا يبذل أي جهد ليحققها، والذي ينتظرها على طبق مجاني ولا يسعى لخلقها، لا يحققها. والذي يعيش في منطقة الراحة ولا يرغب في التغيير والتوبة ولا المغامرة المضمونة العواقب والمكاسب، والذي لا يقدر الأمور على قدرها وحقيقتها، والذي لا يقدر أفضلية الزمان والمكان الرمضاني على غيره، والذي لا يقدر مكاسب العاملين في رمضان ومخاسر القاعدين، والذي تتداخل عنده الأعمال ولا يعرف منها الأولويات ولا يرتب لها الأوقات، والذي.. والذي..
كل هؤلاء سيمر عليهم رمضان كما دخل عليهم بالأمس كما سيخرج عنهم غدا، أياما معدودات سيربح فيها الرابحون ويخسر فيها الخاسرون، وتظل الطريق هي نفس الطريق إنما تختلف فيها الأقدام على الإقدام، ولو علم الناس ما في رمضان لتنموا أن يكون الدهر كله رمضان.