ذ. لمهى يتأمل في حقيقة الإصلاح في القرآن الكريم

 

فقد ورد لفظ الإصلاح في القرآن الكريم في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وبصيغ صرفية مختلفة، نذكر منها:

الإصلاح في القرآن الكريم بصيغة المضارع:

ذكرت العديد من آيات القرآن الكريم لفظ الإصلاح بصيغة المضارع، ومن ذلك قوله تعالى

“وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ” البقرة ، 224.  وقوله تعالى “يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمً”  الأحزاب . 71. وقوله تعالى” وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ۖ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ۚ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ” النساء 129.

كما ورد هذا اللفظ كذلك بصيغة الامر في آيات منها قوله تعالى” إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (” الحجرات .10.

ولقد أقرّ أهل الصرف أن المضارع: “ما دل على حدوث الشيء زمن التكلم به أو بعده”

“والأمر ما يطلب به حصول شيء بعد زمن التكلم.”

 وتأسيسا على ما سبق، يفهم من الصيغ اللغوية التي ورد بها لفظ الإصلاح في القرآن الكريم بصيغتي المضارع والامر، أن الإصلاح أمر قائم في الحاضر والمستقبل فهو فعل متجدد مستمر ما بقيت الحياة قائمة مستمرة إلى حين فناء الكون والخلق.

إذا تم لنا هذا الاستنتاج وسلم من منازع قلنا إن الإصلاح بدأ مع الأنبياء والرسل عليهم السلام؛ فقد كانت دعوة مرتكزة على إصلاح حال الأمم التي بعثوا اليها، بذلوا في ذلك أنفسهم : فمن قتل، ومن توفاه الله بغير قتل، وما بدلوا تبديلا، كما نجدهم قضوا مددا  مختلفة في دعوة أقوامهم إلى الإصلاح حتى كان منهم نوح الذي قضى ألف سنة الا خمسين عاما وهو يواصل رسالة الإصلاح .

كما نجد القرآن الكريم خلد ذكر كثير من المصلحين الذين قدموا أرواحهم لأجل دعوة الناس إلى الإصلاح، وما قصة مؤمن آل ياسين إلا مثل معبر عن هذه الحقيقة الثابتة الراسخة التي لا يكابر فيها إلا متجاهل أو كافر بالوحي وما جاء به عن الله.

تتابعت مهمة الإصلاح، وختمت رسالة الأنبياء الإصلاحية مع بعثة الرسول الرحمة المهداة محمد عليه السلام، فقد بعثه الله ليتمم ما بدأه إخوانه من الأنبياء والرسل السابقين. فلم يغير هو كذلك ولم يقل نفسه من هذه المهمة كما فعل نبي الله يونس عليه فكانت عقابه أن التقمه الحوت ولو أنه كان من المسبحين للبث في بطنه سنين عددا ليعلمه رب العزة جل في علاه أن الاستقالة من وظيفة الإصلاح ليس له فيها من الامر شيء إلا أن يأذن له المولى جل وعلا.

وبعد انتقال خاتم الأنبياء إلى جوار ربه تبعه في مواصلة رسالة دفع الفساد الصحابة رضوان الله عليهم فأبلوا في ذلك البلاء الحسن، ولم يبخلوا فيها بمال ولا نفس ولا وقت ولا ما تيسر لهم من الوسائل والأسباب المعينة على تحقيق مهمة وراثة النبوة.

لم يقف الأمر  الرباني بالإصلاح بعد فترة الصحابة، حيث قيض الله تعالى لهذا الامر العظيم المحفوظ بحفظ الله له، قيض له رجالا من التابعين جدوا واجتهدوا في أداء هذا الواجب الذي اجتمعت عليه دعوة الأنبياء كلهم.

وجاءت مرحلة ما بعد جيل التابعين ، فبعث الله تعالى لهذه الامة من يجدد لها دينها وفي ذلك إصلاح، قام بها الأفراد والجماعات على حد سواء في مشارق الأرض ومغاربها، جمعتهم فكرة الإصلاح رغم تباعد الأقطار والامصار.

وعودا على بدء مما قلناه من الصيغ التي جاء بها الإصلاح في القرآن الكريم، نقول إنه بهذا السرد التاريخي السالف الذكر ليس لاحد مبرر عن القعود عن فعل الإصلاح في كل مجالات الحياة، بل الواجب الذي جاء به القرآن هو الامر بالإصلاح.

ومن خلال النظر في بعض ما يصدر عن بعض أبناء أمة الإسلام، نسمع من يقول بلسان حاله أو مقاله تعالوا بنا يا قومنا ألا يتصدى أحدكم للفساد فما عاد أهمية للإصلاح في زمن صار الغالب على أهله عدم الاكتراث بدعوات الإصلاح، أو بعبارة أخرى إن الإصلاح قد استنفذ اغراضه.

   إن القول بفرضية نهاية الإصلاح فيه ما فيه من مجانبة الصواب ، علما أنه أمر إلهي رباني، وليس تواضعا بشريا اتفق عليه الناس وبعد حين لهم أن يقرروا وقفه إلى حين، فما شرعه لا يملك أحد من الخلق تعطيله بأي وجه من الأوجه إلا ما تأكدت فيه المصلحة الشرعية المعتبرة لا الموهومة، وحتى فيه هذه الحال لن يكون توقيف للإصلاح وإنما تعامل مع الواقع بما يقتضيه الامر من الحكمة التي لا تعني تعطيل الأوامر الربانية.

      وعليه يقال لأهل الخير والفضل والصلاح من اتباع محمد عليه السلام شمروا عن سواعدكم، واستفرغوا جهدكم في طريق مواصلة الإصلاح وتحمل مشاقه وكلفته إسوة بمن سبق من الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ولا يكن أحدنا مثل صاحب الحوت عليه السلام ،  يقيل نفسه مما ألزمه به ربه، فإن وقع منه ذلك فأقل ما يمكن أن يقال عنه فيه أنه سوء أدب مع الله ، لما في ذلك من الشبه بمن قالوا سمعنا وعصينا، فالمخالفة المخالفة لمثل هؤلاء العصاة والبدار البدار إلى الإصلاح ما استطاع كل منا كما قال تعالى ”  إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَي،ْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ”  هود .88 .

والله المستعان.

ذ. عبد الحق لمهى

-*-*-*-*-*-*

مقالات رأي لا تعبر بالضرورة عن رأي الهيئة الناشرة

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى