حاجة المسلم إلى معرفة موانع قبول الأعمال ومحبطاتها

تمهيد:

أمرنا الله تعالى بالقيام بالعمل الصالح، وحثنا على المحافظة عليه والمداومة عليه، وأمرنا كذلك بالإحسان فيه، فقال: “َأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ”البقرة (195)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ). وقال أيضا: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلَا أَنْ يُتْقِنَهُ)، وذلك حتى يأتي به المؤمن في أحسن صورة ظاهرا وباطنا، فيكون عمله أقرب إلى القبول وأرجى للثواب عند الله، بيد أن هناك عدة آفات تفسد عمل المؤمن وتمنع قبوله، ونحتاج في سيرنا إلى الله تعالى أن نفقه هذه الموانع والمحبطات، وأن نكون على بينة منها حتى نجتنبها، والعلم بها داخل في فقه أحكام الله تعالى سواء بسواء، فلا معنى أن يجتهد المؤمن في تحصيل الأعمال الصالحة طوال حياته كلها، يكد ويسعى ويتعب ،ثم يغفل عما يفسدها ويحبطها ،أو في أقل الأحوال ينقص من أجورها، ولا شك أن هذا النوع من الفقه ملازم للعمل، يكون قبل بداية العمل وأثناء القيام به وبعد الانتهاء منه.

ففي القرآن الكريم :

جاء الأمر بعدم إبطال الأعمال، كقوله تعالى ﴿ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ محمد: 33. وفيها حث على تكميل الأعمال وحفظها من كل ما يفسدها لئلا يضيع العمل سدى. قال الحسن البصري: أي لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي.

وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) البقرة 268.

وجاء الحديث عن موانع القبول كذلك باستعمال لفظ حبط الأعمال في آيات كثيرة، مثل:

(لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)الزمر (65)

(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) محمد (9)

(وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) الحجرات (2)

لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآية: قَالَ ثَابِتٌ: أَنَا الَّذِي كُنْتُ أَرْفَعُ صَوْتِي عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَبِطَ عَمَلِي، أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَجَلَسَ فِي أَهْلِهِ حَزِينًا….)الحديث..

وفي السنة النبوية: ورد لفظ (حبط):

قال بريدة رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله (أخرجه البخاري. وفي رواية ( مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ مُتَعَمِّدًا، حَتَّى تَفُوتَهُ، فَقَدْ أُحْبِطَ عَمَلُهُ .)

قال ابن بطال رحمه الله: (قال المهلب : معناه من تركها مضيعًا لها، متهاونًا بفضل وقتها مع قدرته على أدائها، فحبط عمله في الصلاة خاصة، أي لا يحصل على أجر المصلى في وقتها، ولا يكون له عمل ترفعه الملائكة ).

قال ابن تيمية رحمه الله: (حبوط العمل لا يُتَوَعَّدُ به إلا على ما هو من أعظم الكبائر)

وبوب البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في كتاب الإيمان: بابُ خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.

والفقهاء في كلامهم  في أبواب فقه العبادات والمعاملات استعملوا كثيرا مصطلحي المبطلات والمفسدات، فتحدثوا مثلا عن النية في الأعمال، وعن مبطلات الوضوء والصلاة والصوم وعن مفسدات الحج وغير ذلك، وحكموا ببطلان كثير من العقود والمعاملات بناء على ذلك، وقد راعوا في ذلك أن تكون عبادة المؤمن ومعاملته صحيحة من الناحية الظاهرة مستوفية للشروط المطلوبة.

لكن الذي نريد أن نتحدث فيه هو غير ما تناوله الفقهاء، فقد يعرض للمؤمن ما يحبط عمله بسبب أمور أخرى، فيحرم الثواب الموعود وهو لا يشعر ومن ذلك:

1 – فساد النية وسوء القصد في العمل، حين لا يراد به وجه الله تعالى، بل يراد به أشياء أخرى، ومن ميزة الإخلاص أنه لا يجتمع في قلب المؤمن مع حب الثناء والمدح وطمع الدنيا.

وخير مثال على ذاك:

 حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ.)

ولما سمع معاوية رضي الله عنه هذا الحديث قال: قد فُعل بهؤلاء هذا، فكيف من بقي من الناس، ثم بكى معاوية بكاء شديداً، ثم مسح عن وجهه وقال: صدق الله ورسوله، (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(هود: 16).

فهذا الحديث يخبرنا أن مع عدم الإخلاص لا ينفع العمل ولو عظم و كبر، ومع الإخلاص لا يضيع العمل ولو صغر وقل.

ولخطورة الرياء على عبادة المؤمن نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وشدد في النكير على من اتصف به. عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:  أَيُّهَا النَّاسُ! إِيَّاكُمْ وَشِرْكَ السَّرَائِرِ” قَالُوا:  يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ:  يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ).

ولقد وعَى ذلك ابنُ القيم وتفهَّمَ قيمةَ الإخلاص واستقامة القلب، فهتَف فينا محذِّرًا في إحدى دُررِه: “الذي يَعمل بلا إخلاص كالذي يملأ جِرابه رَملاً ليُعينه في السفر”! بدلاً من أن يملأه ماء يَشرب منه إذا ظَمِئ في الطريق”.

وهذا ابن الجوزي عليه رحمة الله الذي لطالما جاهد نيته، تحلُ به سكرات الموت، فيشتد بكاؤه ونحيبه، فيقول جُلساؤه: يا إمام! أحسن الظن بالله، ألست من فعلت، ومن فعلت؟ قال: والله ما أخشى إلا قول الله: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ) (الزمر:47-48.) ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم علي يدي أكثر من مائتي نفس، وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل، ويحق لمن تلمح هذا الإنعام أن يرجو التمام.أخشى أن أكون فرطت وخلطت ونافقت، فيبدو لي الآن ما لم أكن أحتسب، وتبدو لي سيئات ما كسبت، ويقول : ولكم اشتد خوفي بنظري إلى تقصيري وزللي، لقد جلست يوماً واعظاً فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف، ما منهم من أحد إلا رقَّ قلبه، أو دمعت عينُه، قال: فقلت في نفسي: كيف بك يا بن الجوزي ! إن نجا هؤلاء وهلكت؟ كيف بك يا بن الجوزي ! إن نجا هؤلاء وهلكت؟

2 – الاستهانة بالمعاصي الصغيرة:

وذلك أن يعمل الإنسان ذنبا يحتقره ويستهين به، فيكون هو سبب هلاكه، قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} قالوا:لا تنظر إلى معصيتك ولكن أنظر إلى من عصيت.

وفي الحديث ( إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ) متفقٌ عليه.

ومُحَقَّرات الذنوب أي صغائر الذنوب باب عظيم من الأبواب التي يدخل منها الشيطان، ويفتك بالإنسان ويغويه. وعلى المؤمن أن يكون على درجة عالية من اليقظة الإيمانية، والتذكر المستمر وعدم الغفلة وتبلد الحس، وهو يواجه ذنوبا ومعاصي تطل عليه من كل مكان، وفي ذلك قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ، يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ وَقَعَ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ بِهِ هَكَذَا فَطَار).

قَالَ الْمُحِبّ الطَّبَرِيُّ: (إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِ لِشِدَّةِ خَوْفِهِ مِنْ اللهِ، وَمِنْ عُقُوبَته؛ لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الذَّنْب، وَلَيْسَ عَلَى يَقِين مِنْ الْمَغْفِرَة، وَالْفَاجِرُ قَلِيلُ الْمَعْرِفَة بِاللهِ، فَلِذَلِكَ قَلَّ خَوْفُه، وَاسْتَهَانَ بِالْمَعْصِيَةِ).

وعند الإمام الغزالي كلام نفيس حول الضابط الذي يبين كبر الذنب وصغره قال 🙁 فإن الذنب كلما استعظمه العبد صَغُرَ عند الله، وكلما استصغره عَظُمَ عند الله، لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه وكراهته له، وذلك النفور يمنع من شدة تأثيره به.)

3 – التألي على الله: من الأَلْيَة وهي القسم، يعْني الَّذين يَحْكُمُونَ على اللَّهِ ويَقولُونَ فلانٌ فِي الجَّنةِ وفلانٌ فِي النارِ، أو فلان لا يغفر له. فلان ميؤوس من توبته، ولا يخفى ما في التألي على الله من الجهل به تعالى، وبما اتصف به سبحانه من حلم، وسعة رحمة، ومغفرة، وما فيه من سوء الأدب مع الله تعالى.ولذلك فإن صاحبه معرض للإثم، وحبوط العمل.

 والدليل على ذلك حديث جُنْدَب بن عبدالله البَجَلي رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ: أَنَّ (رَجُلًا قَالَ: وَاللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لا أَغْفِرَ لِفُلانٍ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ) ؛ رواه مسلم، ومعنى (يتألَّى عليَّ)؛ أي: يُقْسِم عليَّ.

 وفي رواية: يقول الله تعالى: (أكنت بي عالما ؟ أم كنت قادرا على ما في يدي ؟ أم تحظر رحمتي على عبدي ؟)

ويدخل في هذا الباب أيضا الحكم بقبول طاعة أو عدم قبولها لأحد من الناس، فمتى استوفى المصلى مثلا شروط وأركان الصلاة، ولم يأت بشيء ظاهر يبطلها فهنا لا يمكن لأحد القول بأن صلاته مقبولة أو غير مقبولة، لأن ذلك ينبني على ما قام بقلبه من الإخلاص والتعبد لله تعالى والعلم بوقوع القبول وعدم وقوعه من الأمور الغيبية، التي لا يعلمها إلا الله.

4 – سوء الخلق وسوء معاملة الناس وإذايتهم بأي نوع من أنواع الإذاية: يحبط العمل ويمنع قبوله.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار).

في هذا الحديث: يلفت الرسول صلى الله عليه وسلم نظر أتباعه من أمته إلى أنه ينبغي للعبد المؤمن أن يحافظ على حسناته من الضياع، وذلك بترك مثل هذه الأفعال المذكورة في الحديث، والتي تدور كلها تحت معنى الظلم، أي ظلم الغير: إما بالشتم، أو بالقذف، أو بالاعتداء والإيذاء، فكل هذه الأفعال تكون سبباً في إفلاس العبد يوم القيامة. وفي هذا اليوم العصيب تكون ثروة الإنسان ورأس ماله حسناته، فإذا كانت عليه مظالم للعباد فإنهم يأخذون من حسناته بقدر ما ظلمهم، فإن لم يكن له حسنات أو فنيت حسناته، فإنه يؤخذ من سيئاتهم فيطرح فوق ظهره.

ويستفاد من هذا الحديث معرفة قيمة الأخلاق و حسن المعاملة في الإسلام، وأنها من أصول الدين، وأنها إذا فقدت كانت سببا في دخول النار، ورأينا كيف أن المفلس لم ينتفع بصلاته وصيامه وزكاته وحجه وسائر طاعته، لما ساء خلقه ومعاملته وكثرت إذايته للناس. 

ولعلاج هذه الآفة وجه النبي صلى الله عليه وسلم من وقع فيها إلى حل عملي في الدنيا قبل الآخرة ،فقال:( مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ، أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ.)

وذكر القرطبي في تفسير قول الله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ 34 وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ 35 وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ 36) يفر لأنه يخاف من أن يروه فيطالبوه بحقوقهم عليه في الدنيا التي قصر فيها .

وتشمل المظالم ذنوب القلوب أيضا، مثل ما يحمله المؤمن لأخيه من الغل والحسد، فإنه يذهب بحسناته، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ ). أَوْ قَالَ: (الْعُشْبَ).

وجاء في شرح ألفاظ الحديث في “عون المعبود شرح سنن أبي داود:

(إِيَّاكُمْ وَالْحَسَد): أَيْ اِحْذَرُوا الْحَسَد فِي مَال أَوْ جَاه دُنْيَوِيّ فَإِنَّهُ مَذْمُوم بِخِلَافِ الْغِبْطَة في الْأَمْر الْأُخْرَوِيّ. (فَإِنَّ الْحَسَد يَأْكُل الْحَسَنَات): أَيْ يُفْنِي وَيُذْهِب طَاعَات الْحَاسِد. (كَمَا تَأْكُل النَّار الْحَطَب): لِأَنَّ الْحَسَد يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى اِغْتِيَاب الْمَحْسُود وَنَحْوه فَيُذْهِب حَسَنَاته فِي عِرْض ذَلِكَ الْمَحْسُود فَيَزِيد الْمَحْسُود نِعْمَة عَلَى نِعْمَة وَالْحَاسِد حَسْرَة عَلَى حَسْرَة، فَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة}.

شاهد: موعظة الجمعة. رمضان شهر الجهاد والثّبات غزوة بدر نموذجا. د. أوس رمّال

5 – ذنوب الخلوات:

الإيمان الحقيقي يظهر عند غياب رقابة الناس وترصد أعينهم، عندما يخلو المؤمن بنفسه يستحضر رقابة الله عليه، ويستشعر عظمته في قلبه، فلا يتجرأ على فعل القبيح. ويكون ممن  قال الله فيهم {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ}.

عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا. قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ . قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ) .

لا يليق بالمؤمن أن يظهر بمظهر الصالحين بين الناس، وينتهك المحارم، ولو كانت صغائر في خلوته وسره. فتلك ازدواجية في الشخصية يمقتها الشرع، ويرفضها المجتمع.

وقوله صلى الله عليه وسلم ( إِذَا خَلوا بِمَحَارِمِ الله ) لا يقتضي خلوتهم في بيوتهم وحدهم ! بل قد يكونون مع جماعتهم، ومن على شاكلتهم، فالحديث فيه بيان خلوتهم بالمحارم، لا خلوتهم مع أنفسهم في بيوتهم، فليس هؤلاء بمعافين. لأن عندهم استهتار واستخفاف بالله عز وجل ، فهناك فرق بين المعصية التي تأتي مع الانكسار، والمعصية التي تأتي بغير انكسار، فالشخص الذي يفعل المعصية في السر وهو كاره لنفسه نادم على فعله، ويتألم : فهذا ليس ممن ينتهك محارم الله عز وجل ؛ لأنه – في الأصل – معظِّم لشعائر الله، لكن غلبته شهوته، فضعف لها، أما الآخر: فيتسم بالوقاحة، والجرأة على الله. وبذلك يزولُ الإشكال والتعارض بين هذا الحديث وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي قال فيه : سمِعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كُلُّ أُمَّتي مُعافى إلَّا المُجاهرينَ، وإنَّ من المجاهرةِ أن يعمَلَ الرجلُ بالليلِ عملًا، ثم يُصبِحُ وقد سترَه الله عليه، فيقول: يا فلانُ، عمِلْتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد بات يسترُه ربُّه، ويُصبِح يكشِفُ سِتْرَ الله عنه.) متفق عليه. حيث يحمل حديث ثوبان على من فعل ذلك استخفافًا بالله عزَّ وجلَّ.

6 – العجب والغرور:

والعجب هو الزهو بالنفس، واستعظام الأعمال والركون إليها، وإضافتها إلى النفس مع نسيان إضافتها إلى المُنعم سبحانه وتعالى،قال القرطبي: “إعجاب المرء بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال، مع نسيان نعمة الله، فإن احتقر غيره مع ذلك فهو الكبر المذموم”.

قال تعالى: (وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ)المدثر: 6، قال الحسن البصري: لا تمنن بعملك على ربك تستكثره

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ؛ أن رسول الله قال ( لو لم تكونوا تذنبون خشيت عليكم أكثر من ذلك : العُجْب) .

 قال ابن القيم في مدارج السالكين: العارف لا يرضى بشيء من عمله لربه. قال ابن عطاء الله السكندري في حِكَمه (رب معصيةٌ أورثت ذُلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عِزاً واستكباراً).

وعدم الاغترار بالعمل هو الذي يدفع المؤمن إلى النظر إلى عمله بعين النقص والتقصير، وهذا المستوى الإيماني الرفيع هو الذي ورد في حديث عائشة رضي الله عنها حين سألت رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة } قالت :أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا تقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون).

ولذلك كان من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ختمُ الأعمال الصالحة بالاستغفار، فقد ثبت في صحيح مسلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا .) وورد ختم صلاة الليل بالاستغفار، قال الله تعالى:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}.وقال تعالى { وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }، فذكر أنهم يتهجدون ويتعبدون لله تعالى، ويرون أنَّهم مقصِّرون فيسألون الله المغفرة، قال الحسن: مدوا صلاتهم إلى السحر، ثم جلسوا يستغفرون الله عز وجل. ولذا ختم سبحانه سورة المزمل وهي سورة قيام الليل بقوله : {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .

فالاستغفار شرع لسد الخلل الواقع من العبد في أداء عبادته وتقصيره فيها. فحري بالمؤمن أن يُلازم الاستغفار وأن يكثر منه، ولا سيما في ختام الطاعات جبرا لما فيه من نقص، وتتميما لطاعته وعبادته.

نعم، التوفيق للأعمال الصالحة يسعد المؤمنين، وقلب المؤمن يفرح بالثواب .. ولكن ينبغي الحذر من الاغترار بالعمل مهما عظم. قال عليه الصلاة والسلام: ( إذا سرتك حسناتك، وساءتك سيئتك، فأنت مؤمن).

7 – المن  بالصدقة والأذى، وهو أمر متفرع عما سبقه، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ البقرة: 264.

فمعنى المنّ: تعداد النعمة على المنعم عليه، فيقول له: ألا تذكر يوم كذا أعطيتك كذا، وأحسنت إليك بكذا. ﴿والأذى﴾: كل ما يؤذي الشخص من القول، أو الفعل، أو التصرف كالتعيير والتوبيخ بالسؤال والحاجة.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر، ثم تلا ﴿ لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾. جامع القرطبي.

فالذي يمن تعظم في نفسه عطيته، وإن كانت حقيرة في نفسها، و يحمله ذلك على النظر لنفسه بعين العظمة، وأنه منعم بماله على المعطى، ثم يحمله ذلك على أن يحقر المعطى له.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالوعيد الشديد في حق المنان، وذلك فيما رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه : ” ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة : المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منة).

ومن الأخلاق العالية التي ينبغي أن يتصف بها المعطي ما جاء في  قوله تعالى: “إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا” الإنسان.9.

وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها إذا أرسلت إلى قوم بهدية تقول لمن ترسله: “اسمع ما دَعَوْا به لنا؛ حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا ويبقى أجرنا على الله”.

قال الرازي في تفسيره: ( وَلَا شَكَّ أَنَّ الْتِمَاسَ الشُّكْرِ مِنْ جِنْسِ الْمَنِّ وَالْأَذَى. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْقَوْمُ لَمَّا قَالُوا: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ بَقِيَ فِيهِ احْتِمَالُ أَنَّهُ أَطْعَمَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ وَلِسَائِرِ الْأَغْرَاضِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيكِ، فَلَا جَرَمَ نَفَى هَذَا الِاحْتِمَالَ بِقَوْلِهِ: لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً.)

خاتمة:

هذا هو حال المؤمن مع عمله الصالح، يحرص عليه ويحافظ عليه ويداوم عليه، ويحسن فيه غاية الإحسان بحسب الجهد والاستطاعة، ومع ذلك لا يطمئن لعمله، بل يخشى عدم قبوله، ويخاف من أن يحبط عمله ويرد عليه. وهو في كل أحواله يرجو رحمة ربه ويساله من فضله، فبها تحصل النجاة يوم القيامة. مصداقا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ قَالُوا، وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ، وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا.) صدق رسول الله صلى الله ليه وسلم.

والحمد لله رب العالمين

الأستاذ خالد التواج

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى