توجيـه تربـوي: الــــورع
الورع هو كمال التقوى ودرجتها العليا، فتعلقه بما دون الكبائر من الصغائر والشبهات والمكروهات، فلا يكون العبد ورعا حتى يكون تقيا، حيث تحجزه التقوى عن الحرام ويحجزه الورع عما دون الحرام من الشبهات.
وقد يطلق الورع على التقوى فيكون مقاما واحدا إلا أن التفريق بينهما واعتبار الورع من تمام التقوى يزيد هذه القيمة وضوحا.
والحديث الذي يعتبر أصلا جامعا في الورع هو حديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُوْرٌ مُشْتَبِهَات لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاس،ِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرأَ لِدِيْنِهِ وعِرْضِه، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ، أَلا إِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَىً أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهيَ القَلْبُ) رواه الشيخان.
قال العلامة بن دقيق العيد في شرحه لهذا الحديث الأشياء ثلاثة أقسام: فما نص الله تعالى على تحليله فهو الحلال، وما نص على تحريمه فهو الحرام، والشبهات هي كل ما تتنازع فيه الأدلة من الكتاب والسنة وتتجاذبه المعاني، فالإمساك عنه ورع.
وأما تحريم الحلال لمجرد الوسوسة فليس من الورع في شيء، ولذلك وضع القرآن الكريم حدا فاصلا بين الورع وبين تحريم الطيبات فقال عز وجل:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [(المائدة 89).
والورع يبدأ في القلب خشية وحياء من الله تعالى ثم ينعكس على الأقوال والأفعال، فهو يقظة وحذر دائم يورث صاحبه التحرج والتحفظ من الوقوع في المخالفات وهذه الحال التي تقوم بالقلب سببها العلم بالله تعالى والعلم بما يكون يوم لقائه.
إن أهل الورع أكثر الناس ذكرا ليوم الحساب وأشدهم خوفا من المحاكمة التي ستجري في هذا اليوم الشديد:] يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ[ (غافر15و16).
عرف أهل الورع أنهم موقوفون ومسؤولون ومحاسبون فلم يترخصوا ولم يتهاونوا واحتاطوا لأنفسهم وقالوا لا شيء أسهل من الورع فما رابك من شيء فدعه واتركه (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).
قال سفيان الثوري: يُسألون والله عن كل شيء، حتى التبسم فيم تبسمت يوم كذا وكذا.
وقال الحسن: إن أيسر الناس حسابا يوم القيامة الذين حاسبوا أنفسهم في الدنيا فوقفوا عند همومهم وأعمالهم فإن كان الذي هموا به لله مضوا فيه وإن كان عليهم أمسكوا،
وإنما يثقل الحساب يوم القيامة على الذين جازفوا الأمور في الدنيا أخذوها على غير محاسبة فحوسبوا على مثاقيل الذر ثم قرأ قول الله تعالى:] وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [ (الكهف 48).
إن من أيقن أنه مسؤول عن أعماله بلا استثناء وأيقن أن عملا صغيرا منها قد يرجح به ميزان حسناته فينجو ويفوز أو يرجح به ميزان سيئاته فيهلك ويخيب. لا يسعه إلا أن يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس.
ولقد وصف عبادة بن الصامت ورع الصحابة رضي الله عنهم عندما قال يخاطب التابعين: إنكم تعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر، قال أحد التابعين قلت لأبي قتادة: فكيف لو أدرك زماننا هذا، قال: كان لذلك أقول (أي ما زاده ذلك إلا تأكيدا لقوله) ونحن نقول اليوم كيف لو أدركوا جميعا زماننا هذا حيث أصبح الورع بعيدا عن واقعنا وصارت أخبار أهله كأنها أساطير ومثاليات. وهذه أمثلة متفرقة نفهم بها درجة الورع.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا فكنت في رفقة أبي بكر وكان معنا أعرابي من أهل البادية فنزلنا بأهل بيت من الأعراب وفيهم امرأة حامل فقال الأعرابي أيسرك أن تلدي غلاما؟ إن أعطيتني شاة ولدت غلاما فأعطته شاة وسجع لها أساجيع (أي تكلم بكلام الكهان) قال: فذبح الشاة، فلما جلس القوم يأكلون قال: أتدرون من أين هذه الشاة؟ فأخبرهم: قال: فرأيت أبا بكر يتقيأ) الورع لابن حنبل ص 50.
وعن فاطمة بنت عبد الملك بن مروان زوج عمر بن عبد العزيز قالت: (اشتهى عمر (زوجها) عسلا، فلم يكن عندنا فوجهنا رجلا على دابة من دواب البريد إلى بعلبك بدينار فأتى بعسل فقلت إنك ذكرت عسلا وعندنا عسل فهل لك فيه قالت فأتيناه به فشرب ثم قال: من أين لكم هذا العسل قالت وجهنا على دابة من دواب البريد بدينار إلى بعلبك فاشترى لنا عسلا، فأرسل عمر إلى الرجل فقال: انطلق بهذا العسل إلى السوق فبعه واردد إلينا رأسمالنا وانظر إلى الفضل (ما فضل من المال بعد البيع) فاجعله في علف دواب البريد ولو كان ينفع المسلمين قيء لتقيأت) نفس المرجع ص 51.
تورع عن أكل هذا العسل لمجرد أن أهله استعملوا في جلبه دابة من دواب البريد وتصرف بما يعيد للمسلمين حقهم دون أن يتقيأ لأنه لم ير منفعة للمسلمين في ذلك،
وجاء في طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي/ج5/ص159: سمعت أبي يحيى عن الحافظ الدمياطي أن الشيخ عبد العظيم المنذري خرج من الحمام وقد أثر فيه حرها فما أمكنه المشي فاستلقى على الطريق إلى جانب حانوت، فقال له الحافظ الدمياطي ياسري: أنا أقعدك على مسطبة الحانوت (العتبة) وكان الحانوت مغلقا فقال له الشيخ المنذري وهو في تلك الشدة بغير إذن صاحبه؟ كيف يكون وما رضي.
وكما كان ورعهم في الأعمال كان ورعهم في الأقوال فلا يتكلمون إلا بخير وإذا تكلموا تثبتوا، وكان قولهم بعلم وكانت كثير من فتاوى السلف لحمل الأمة على الورع كما رأى عبد الله بن عمر رجلا يحمل حشيشا على دابته وتناول منه رجل قبضة فقال له ابن عمر: أرأيت لو أن أهل منى أخذوا مثلك قبضة قبضة أيبقى منها شيء؟؟ قال: لا قال: فلم فعلت؟ نفس المرجع ص11.
وقال عبد الله بن مسعود: إياكم وحزائز القلوب يعني إن ما حز في نفسك من شيء فاتركه وفي الحديث الشريف(دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).
هذا الورع ويقابله التحايل على الشرع واستحلال ما حرم الله تعالى بالحيل الباطلة، وقد أنكر سبحانه وتعالى على أهل الكتاب تحايلهم على كثير مما أمرهم الله به أو نهاهم عنه، كما قال تعالى: ]وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ[ (الأعراف 163). كانوا يحتالون على الحوت الذي يكثر يوم السبت فينصبون الشباك يوم الجمعة ويجمعونها يوم الأحد.
وقد قال علماؤنا إن الحيل المنهي عنها هي كل عمل ظاهر الجواز قصد به صاحبه التوصل إلى محرم ومن أمثلته:
أن يأخذ الرجل شهادة طبية ليفطر في رمضان بغير عذر وأن يبيع ما حرم الله عليه أكله كما باع اليهود الشحوم لما حرم الله عليهم أكلها، أو أن يسمي الحرام بغير اسمه ليحله مثل أن يسمي الربا فائدة ويسمي الخمر مشروبا روحيا أو أن يكذب في ثمن السلعة أو يتظاهر بأنه يريد أن يشتري وهو يريد إعانة البائع على البيع أو أن يأتي برجل ليحلل له زوجته المطلقة ثلاثا بنكاح صوري…
إن الحيل التي تحلل الحرام أو تسقط الواجب هي المقابل للورع، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم:
لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل:
كما وضع عليه السلام كل مسلم أمام ضميره وأمره أن يستفتي قلبه وإن أفتاه الناس فقال: (إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها) انتهى.
الدكتور محمد عز الدين توفيق