تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المغرب
كان أول من دعا إلى الاحتفال بعيد المولد النبوي الكريم في المغرب، أبو العباس العزفي السبتي المتوفى سنة 633هـ/1236م، وذكر في مقدمة كتابه “الدر المنظم في مولد النبي المعظم” الحافز الذي حدا به إلى الدعوة لهذا الاحتفال.
لقد انتبه إلى ضرورة العناية بمولد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فبدأ يطوف على الكتاتيب القرآنية بسبتة ويشرح لصغارها المغزى والغايات الفاضلة من هذا الاحتفال، كما حض على تعطيل قراءة الصبيان في هذا اليوم العظيم. ولما تولى ابنه أبو قاسم العزفي إمارة سبتة، كان من إنجازاته أن حقق رغبة والده فاحتفل في سبتة بالمولد النبوي في أول ربيع من إمارته عام 648هـ/1250م، ويصف ابن عذارى المراكشي احتفال أبي قاسم العزفي في أول ربيع له بالمولد الكريم، فيكتب:
“ومن مآثره العظام، قيامه بمولد النبي -عليه السلام- من هذا العام، فيطعم فيه أهل بلده ألوان الطعام، ويؤثر أولادهم ليلة يوم المولد السعيد بالصرف الجديد من جملة الإحسان إليهم والإنعام، وذلك لأجل ما يطلقون المحاضر والصنائع والحوانيت يمشون في الأزقة يصلون على النبي عليه السلام، وفي طول اليوم المذكور يسمِّع المسمعون لجميع أهل البلد مدح النبي عليه السلام، بالفرح والسرور والإطعام للخاص والعام، جار ذلك على الدوام في كل عام من الأعوام».
الاحتفال بالمولد النبوي بالمغرب على الصعيد الرسمي
بعد أن أكمل أبو القاسم كتاب والده “الدر المنظم في مولد النبي المعظم”، وبعث بنسخة منه إلى الخليفة ما قبل الأخير في دولة الموحدين عمر المرتضى مشيرا عليه بإحياء هذه “البدعة الحسنة” كما وصفها كتاب “الدر المنظم”، صار هذا الخليفة الموحدي يحيي ليلة المولد بمراكش ويحتفل بها احتفالا، ويبدو أن الإنشاد والسماع كانا حاضرين أيضا كمحورين رئيسين في هذا الاحتفال، كما يوحي بذلك “كتاب المسموعات” الذي ألفه مؤرخ المرتضى أبو علي الحسن بن علي بن محمد بن عبد المالك الكتامي الرهوني المعروف بابن القطَّان نزيل مراكش 661هـ/1263م. وهو كتاب ضمنه قصائد مختارات فيما يخص المولد الكريم، وشهور رجب وشعبان ورمضان، وغير ذلك. وهو كتاب مفقود.
وقد امتد الاحتفال بالمولد النبوي في المغرب على عهد المرينيين إلى أن أصبح عيدا رسميا معمما في جميع جهات المغرب مع يوسف بن يعقوب بن عبد الحق المريني أواخر صفر عام 691هـ/1292م.
وفي أيام أبي سعيد الأول بن يوسف أضيف إلى ليلة المولد الاحتفال بسابعه، وفي أيام هذا السلطان تبنت الدولة القيام بنفقات الاحتفال بليلة المولد في سائر جهات المملكة. وقد اتخذت هذه الاحتفالات طابعيها الاحتفائي الباذخ والبهي مع أبي الحسن وأبنائه، حيث دأب أبو الحسن المريني على إحياء ليلة المولد سفرا وحضرا، إذ يقتني لها ألوان المطاعم والحلويات والبخور والطيب؛ مع إظهار مظاهر الزينة والتأنق في إعداد المجالس كل حسب مرتبته وطبقته، ويأخذ الجميع من لباسه أبهاه ومن ريحه أطيبه، ويقدم في هذه الليلة ما طاب ولذ عن الفواكه الطرية واليابسة والحلويات وغيرها، وقد يقع الإطعام بعد العِشاء الآخرة. وكانت إذا «استوت المجالس وساد الصمت قام قارئ العشر فرتل حصة من القرآن الكريم، ويتلوه عميدُ المنشدين ويؤدي بعض نوبته تم يأتي دور قصائد المديح والتهاني بليلة المولد الكريم».
وكانت تواكب هذه الاحتفالاتِ الرسمية احتفالاتٌ أخرى شعبية، حيث تُقام الأفراح وتستنير المدن بالأضواء، ويَتجمل الناس وتُزين المدن. وصار يوم الثاني عشر من ربيع الأول يوم دخول الصبيان بفاس للكتاتيب القرآنية، ومناسبةً لختان الأطفال. كما دأب الصوفية على الاحتفال بهذا العيد بزواياهم أو بالبيوتات الخاصة؛ فهذا أبو مروان عبد الملك الريفي أحد تلامذة أبي محمد صالح الماجري دفين آسفي، يقيم المولد النبوي في منزله بسبتة بحضور المريدين ومن إليهم ويستعمل في الليلة السماع، كما أن شعراء الملحون في هذا العهد كانوا يتبارون لإظهار براعتهم الشعرية بمناسبة المولد النبوي “حيث يجتمعون صباح يوم العيد في الميدان الرئيسي ويعتلون المنصة واحدا تلو الآخر لإلقاء أشعارهم وقد تجمهر عليهم الناس، ثم يُنَصَّبُ أميراً للشعراء من أحرز منهم قصب السبق”.
ويُذكر كذلك أن السلطان المريني كان يقيم حفلا بهذه المناسبة يستدعي له رجال العلم والأدب، وأن الشعراء كانوا يلقون القصائد أمامه فيُنعم على الفائز الأول بمائة دينار وفرس ووصيف وحُلَّتِه التي يكون لابسا في هذا اليوم ويمنح سائر القراء خمسين دينارا لكل واحد”.
وقد ازدهت وازدهرت هذه الاحتفالات مع السعديين، وتعيينا في عهد المنصور كما أرخ لذلك عبد العزيز الفشتالي في “مناهل الصفا”” حيث نقرأ فيه وصفا دقيقا لأحد مجالس هذه الحفلات. يقول:
“فإذا استوت الورود، واصطفت الصفوف وتقاربت الأجناس وتآلفت الأشكال، ورضيت مقاعدها السراة(…) تقدم أهل الذكر والإنشاد يقدمهم مشائخهم من بعد أن يفرغ الواعظ من قراءة ما يناسب المقام من الاستفتاح بفضائل النبي صلى الله عليه وسلم وسرد معجزاته والثناء على شريف مقامه وعظيم جلاله، واندفع القول لترجيع الأصوات بمنظومات على أساليب مخصوصة في أماديح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يخصها العرف باسم “المولديات” نسبة إلى المولد النبوي الكريم، قد لحنوها بألحان تخلب النفوس والأرواح، وترق لها الطباع وتبعث الانشراح في الصدور والأشباح، وتقشعر لها جلود الذين يخشون ربهم، يتفننون في ألحانها على مذهب تفننها في النظم، فإذا أخذت النفوس حظها من الاستمتاع بألحان المولديات الكريمة، تقدمت أهل الذكر المزمزمون بالرقيق من كلام الشيخ أبي الحسن الششتري رضي الله عنه وكلام غيره من المتصوفة أهل الرقائق. كل ذلك تتخلله نوبات المنشدين للبيتين من نفيس الشعر يتحينون به المناسبة بينها وبين ما يتلى من الكلام عند الإنشاد».
إن هذا النص النفيس يكشف لنا عن قمة ما وصل إليه السعديون في العناية والاحتفاء بالمولد النبوي الشريف، وهو ما تطور وازدهر في عهد الدولة العلوية، حيث عرفت تقاليد واحتفاءات واحتفالات، فصل في بعضها مؤرخو المملكة الشريفة، كما نقف على نماذج من ذلك مع المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان في كتابه “العز والصولة”، احتفالات مازلنا نعيش فصولا رائعة منها في زماننا الحاضر، وفي مقدمتها ذاك المشهد الفريد في العالم الإسلامي حيث يجلس أمير المومنين على البساط في رفعة المتواضعين وعليه سيما المحبين، معه كبار رجال الدولة والعلم والشرف وسفراء مختلف البلاد الإسلامية، محاطا بالذاكرين والمادحين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يرددون بحضرته، في جو رباني وأفق ذكري ملائكي كله خشوع وهيبة وألق ومحبة؛ يرددون مدائحَ جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويتغنون بشمائله وخصائصه ومكارمه وسيرته.
محفل ديني يُنقل عبر مختلف وسائل الاتصال ليشع بمعانيه وإشاراته على العالم، واشجا ببهاء بين الجلال والجمال، بين الروحانية والاغتباط، بين الفرح والنسك، بين الحسن والإحسان.. وقد تعطر المقام والحضور برفيع العود والبخور، وازين الفضاء ببديع الفرش ووحدة الملبوس ونفيس الإهاب ورائق الأنفاس.. أما الأصوات فكأنها مزامير داود، انتُخب من مختلف جهات المملكة أعذبُها وأرفعها، وانتُقي لها من بهي الأنظام وشجي الأنغام، ما به ترتحل الأرواح عن أشباحها، وتنسكب عبرات الهنا من محاجرها، وتنتشي الأفئدة طربا وحبورا بمحبوبها..
فإذا انتهى المديح والإنشاد تُليت آي من الذكر الحكيم، وخَتم المجلسَ أميرُ المومنين بالصلاة على جده الصادق الأمين، ليتم تكريم وإكرام العلماء والشرفاء والشعراء والمداح، وينصرف الجمع مغتبطا مسرورا، وقد أسهم الحاضرون باعتزاز وانشراح في استدامة الأفراح، بهذا العيد النبوي الفاخر الأثير.
الاحتفال بالمولد النبوي بالمغرب على المستوى الشعبي
أما على المستوى الشعبي، ففي هذه المناسبة يكثر تدارس وتدريس السيرة النبوية في المساجد والمزارات والزوايا والبيوتات الخاصة، يصحبها ترتيل المدائح النبوية بأحلى التلاحين وأزهى الترانيم، وتقام حفلات ختان الأطفال في القرى والمدن، كما تعرف هذه المناسبة انتعاش الخياطة التقليدية من خلال إقبال الناس على إعداد أجمل الثياب التقليدية لصبيحة المولد الشريف، أما الطبخ المغربي فيشهد تجهيز أرفع الحلويات والعجائن، فضلا عن عنايته بمأكولات مخصوصة بفطور يوم العيد، والتي تعبر رمزيا عن صدى الفرح بمولد الرسول في المتخيل الثقافي المغربي.
وتمتد الاحتفالات وما يواكبها من تدارس وإكرام وإطعام وإطراب في مختلف الزوايا والمشاهد والبيوتات على امتداد شهر الربيع النبوي، مع تمييز سابع العيد باحتفاء متفرد. وما تزال طقوس هذه الاحتفالات ومؤثثاتها ورموزها في مسيس الحاجة إلى التوثيق والتدوين والوصف والتحليل كما أشرنا آنفا.
وإجمالا، فإن من مرامي امتداد وازدهار وتوهج الاحتفال المولد النبوي في المغرب، رسميا وشعبيا، على مدى قرونٍ استدامةُ الفرح بالمصطفى صلى الله عليه وسلم لما فيه من عظيم المكارم وسمي الآثار ورفيع المقاصد، وهو ما جعل المغاربة يتمسكون بهذه السُّنة الحسنةِ ويتفننون في الاحتفاء بها وإحيائها.
لكننا اليوم، وبسبب رياح دخيلة “غير لواقح” هبت على المشهد الثقافي الديني بالمغرب ظهرت معها نزعة تشكيكية جذرية في شرعية هذا الاحتفال وسمو مقاصده، أصبحنا نحتاج معها إلى التذكير ببعض أصول ومقاصد أجدادنا في هذا الاختيار الرشيد والسديد؛ والذي لم يكن رشده ولا سداده بل ولا نبوغه، وإلى وقت قريب، في حاجة إلى شرح أو بيان. إنه مجرد تذكير لعل الذكرى تنفع المومنين.
د. محمد التهامي الحراق