تأمل وتدبر في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام – عبد الحق لمهى

يقول سبحانه وتعالى﴿ أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ أَنۡ ءَاتَاهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡيِۦ وَأُمِيتُۖ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأۡتِي بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ﴾[البقرة: 258

جاء في تفسير الشيخ المكي الناصري لهذه الآيات قوله: ” وفي هذا الربع قصة إبراهيم الخليل، وذكر مناظرته مع ملك من ملوك عصره ادعى الربوبية لنفسه، فانتصر عليه إبراهيم بما أتاه الله من حجج بالغة” [1]

يعتبر القرآن الكريم أول وأعلى مصدر من مصادر المعرفة الإسلامية، وتأسيسا على هذا أحاول، من خلال الآيات السالفة الذكر، استخلاص ما يمكن من عموم الأفكار التي توجه وتضبط المعرفة الإسلامية والسلوك الإنساني المسلم.

بالتأمل في الآيات المذكورة قبل، واسترشادا بما قاله سماحة الشيخ المكي الناصري رحمه الله تعالى تظهر بعض الخلاصات، وهي كما يلي:

ـ الحجاج مسلك قرآني أصيل، فهو ألية من أليات الإقناع، ويظهر جليا في محاججة إبراهيم عليه السلام للملك الذي عاصره حينها. ومنه يستفاد أن المسلم وهو يريد الدفاع عن فكره ومعتقده ليس عليه إلا التمسك بما قرره القرآن من الحجاج مع غيره من المخالفين.

ـ القرآن الكريم يحتفي بالرأي والرأي المخالف من خلال عرضه لرأي إبراهيم ورأي الملك، وبذلك يفهم أن القرآن الكريم لا يتضايق من الآراء المخالفة لما قرره من الحقائق سواء منها ما تعلق بالعقيدة أو غيرها، ومنه والتزاما بهذا المنهج القرأني الأصيل يكون من المطلوب من  العقل المسلم الحرص كل الحرص على بسط حجة المخالف أي كان هذا المخالف فلا نغمط أحدا رأيه أو موقفه أو حجته بل نسعى إلى إعلانها بشكل واضح وشفاف، فالمسلم لا يخشى من ظهور حجة المخالفين له في العقيدة والدين خاصة عند الحجاج والحوار الذي يكون هدفه الدفاع عن الحقيقة وإبرازها من قبل العقل المسلم أساسا ذلك أن المخالف قد لا يكون غرضه ذاك كما هو غرض المسلم، وكذلك فإنه من المفيد على مستوى الكتابات التي تعنى بالحجاج والمناظرة الـتأكيد والإعمال  لهذا المنهج القرآني الفريد، والناظر في بعض الكتب التي كتبها المسلمون في باب المناظرة للمخالفين يجد هذا المنهج جليا واضحا.

ـ الحجاج القرآني في هذا الصدد بني على أدلة عقلية منطقية، فلم يكن من الممكن الاستمرار في محاورة الملك بالدليل الشرعي، عند من يفرق بين الدليل الشرعي والعقلي، بل سلك القرآن مسلك العقل، وفي هذا ما فيه من الدلالات المهمة لكل عقل مسلم، ففي عصرنا الحالي لا تكاد الشبهات حول العقيدة الإسلامية وقضاياها تتوقف، وحتى يتم رد تلك الشبهات يعلمنا القرآن الاجتهاد في إعمال العقل بغية تقديم ما يساعد على حسن الإقناع للغير بصواب ما عندنا من الاعتقاد، والذي يمارس مهام التعليم يفهم هذا الأمر أكثر، خاصة حينما يتعلق الأمر بتعليم الناشئة كيفية فهم قضايا العقيدة إثباتا لها ودفاعا عنها، إذ تكون آلة الدليل  أكثر حاجة منها إلى الدليل الشرعي. ولا أظن أن في هذه المساحة حدا معينا بل المجال يتسع لجملة من الأدلة العقلية الكثيرة المتنوعة وهنا تأتي أهمية الانفتاح على العلوم المادية وغيرها من العلوم الأخرى بغية الاستفادة من معارفها وتصريفها أدلة عقلية قوية في الحجاج مع المخالفين دفاعا عن العقيدة الإسلامية الصافية.

ـ  لا يخشى القرآن الكريم ضياع العقيدة أو ظهور ضعفها، والدليل على ذلك عرضه لموضوع إثبات الربوبية أمام العقل الإنساني حتى يبقى هذا الأمر علانية إلى يوم الدين، فكأن القرآن الكريم يقول لمن تعنيه قضاياه ألا خوف على العقيدة من أن تكون محور جدال بين الناس، فهذا لن يضيرها في شيء، بل إن القرآن يحث على ضرورة الحجاج في أمور العقيدة بيانا لقوتها.

ـ من العدل القرآني مع المخالف بيان تهافت حجته، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد جعل مكانة لرأي المخالفين في العقيدة والدين بحيث خصص لهم مساحة هامة بسط فيها حججهم إلى جانب حجج العقل المسلم، بنفس العدل يعرض القرآن الكريم مشاهد تهافت حجج هؤلاء المتهافتين، فلا يتوانى كتاب الله في التأكيد على المآل الفاشل والدليل الضعيف الذي جاء به الملك خصم إبراهيم عليه السلام.

ـ في القصة أخلاقيات الحجاج والمناظرة، من خلال تتبع أطوار الحديث المتبادل بين الطرفين يلاحظ سمو أخلاقي كبير، إذ لم يصدر من الطرفين لا سب ولا شتم ولا غيره مما هو منه، وفي ذلك ما فيه من الإشارات القوية على أن الحجاج واختلاف الرأي ليس مبررا لأحد في أن يتهجم على الآخر بأي شكل من الأشكال التي تخرج عن حدود الأخلاق.

ختاما، فقد نظرت وتأملت وتدبرت مع ما ظهر لي من خلاصات مستفادة من الآيات، أرجو أن يكون التوفيق حليف ما قلت، وإلا الاستغفار من الله تعالى على كل قول بغير علم.

[1] ـ ينظر التيسير في أحاديث التفسير، من إملاء سماحة الشيخ محمد المكي الناصري، الجزء الأول، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى (1405ه/ 1985م)،  ص 168

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى