المجاهد الخدوم سيدي عبد الحي بنعبد الجليل رجل من أهل السماء – عبدالهادي باباخوي

غادرنا اليوم إلى دار البقاء، رجل من أولئك الذين كانوا يمشون بين الناس بقلوب من نور، ويخفون تحت ثياب البساطة جبالاً من الصبر والجهاد والعطاء.. رحل أستاذنا عبد الحي بنعبد الجليل، فإذا بفاس تفقد واحداً من آبائها الروحيين، وأحد الذين كانوا إذا مرّوا في الأزقّة أزهرت الأرصفة بأقدامهم، وإذا جلسوا إلى الأطفال واليتامى استنارت الوجوه، كأن الرحمة أرسلت إليهم في هيئة بشر.
ما عرفته إلا في هيئة الأب الرحيم، وإذا جلس على حصير جمعية الأمل بحي سيدي بوجيدة، التفّت حوله حلقات من الأطفال والفتية، ومن خلفهم قلوب النساء والرجال، كأنهم جميعًا نجوم تدور حول قمر، يستضيؤون بوجهه ويستدفؤون بحرارة قلبه. لم يكن يعطي من ماله فقط، بل من عمره وروحه، كأن الله خلق في صدره نبعًا لا ينضب من الرحمة. فإذا سألت عن اليتيم، قالوا: صاحبه. وإذا سألت عن الشباب، قالوا: أبوه المربّي. وإذا سألت عن الفقراء والمهمومين، قالوا: ظلّهم من حرّ الحياة.
كان العمل الخيري عنده فطرة، لا يدرسه ولا يتكلّفه، يَسعى إليه كما يسعى العصفور إلى رزقه، خفيف الروح، شديد الإصرار. يؤسّس الجمعيات كما يغرس الفلاح شجرةً في أرض عطشى، ويسقيها من صبره حتى تورق وتؤتي أكلها صدقةً جارية. وإذا تحدّث عن التربية وبناء الإنسان الصالح، رأيت في عينيه نارًا من الشغف لا تخبو، ونورًا من الإيمان لا يتراجع.
قلتُ له يوم لقائي الأول به في أحضان جمعية الأمل: “يا أستاذي، ما أشبهك بالشيخ أحمد ياسين..!!”، فتبسّم تلك الإبتسامة التي لا تُعرف: أهي حياء أم رضا، أم شكر لله على أن جعل في الناس من يبصر الحقيقة خلف الجسد النحيل..؟ وها هي الأيام تمضي، لا تطوي السنين فحسب، بل تكشف عن المعنى الذي كنت أراه ولا أراه.
كانا –هو والشيخ أحمد ياسين– جسدين ضعيفين في نظر الدنيا، لكنّهما عند الله جبالٌ من ثبات، كلاهما قصير في الجسد طويل في الأمل، عاجز في الأطراف قويّ في الهمة، محاصرٌ بالعجز الظاهر لكنّ روحه تسافر في آفاق لا يصل إليها الطغاة ولا المتخاذلون.. كلاهما يرى اليُتم ولا يبكي، بل يصنع للأيتام آباء، ويرى الضياع فلا يصرخ، بل يبني للشباب بيوتًا من المعنى والكرامة. أحمد ياسين حمل غزة على كتفيه، وعبد الحي حمل فاس في قلبه، كلاهما مربٍّ ومجاهد، إذا جلس إلى الناس أحدث فيهم ثورة روحية، وإذا غاب ترك خلفه جيلًا يواصل الطريق.
كان الشيخ أحمد ياسين يصنع من المسجد قلعةً للمقاومة، وكان عبد الحي يصنع من الجمعية منارةً للقرآن، كلاهما لا يصرخ في الناس: “كونوا صالحين”، بل يهمس لهم همس الجداول: “هكذا أكون.. فكونوا”. وإذا أطلّ الليل، كانا من أولياء الدعاء ودموع الخلوة، يضعان في يد الفجر وصية: “بلغ عنّا ربّنا أننا لم نخن العهد”..
فيا ربّ: إن عبدك عبد الحي قد جاءك اليوم، لا بمال وفير، بل بقلوب أحبّته، وبأيتام دعوا له، وبشباب صاروا رجالًا على يديه، وبمدادٍ من القرآن في صحائفه، ودموعٍ من المحراب على جبينه. اللهم اجعل قبره روضةً من رياض الجنة، وافتح له بابًا من نورك لا يُغلق، واسقه من حوض نبيّك شربةً لا يظمأ بعدها أبدًا.
اللهم اجزه عنا وعن اليتامى أبوة، وعن الشباب تربية، وعن الجمعيات بناءً وإيمانًا، وعن دعوة الإسلام صبرًا واحتسابًا.
اللهم ألحقه بالصالحين، واجمعنا به في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر، حيث لا تعبٌ ولا وداع..




