القراءة الحداثية للقرآن بين الإبداع والتقليد (1) – حسن المرابطي

اعلم أن ممارسة القراءة القرآنية في العصر الحديث باسم التجديد والحداثة تدعونا جميعًا إلى مزيد من البحث والاجتهاد؛ حتى نواكب كل جديد، متوسلين طلب التوضيح للتداخل الحاصل بين الأفكار، لاسيما أن الأمر يتعلق بالقرآن الكريم، أي كلام الله ووحيه عز وجل. بيد أن نظرة خاطفة إلى القراءات المقدمة والتي تلقى تفاعلًا، أو قل تلقى دعمًا، يمكن تصنيفها في خانة واحدة، إذ يطلق عليها أصحابها القراءة الحداثية للقرآن أو القراءة المعاصرة، لكن ما يلفت انتباهنا في جل هذه القراءات المنتشرة هو تشاركها في مصادمتها وجدان المسلم، إذ أنتجت نوعًا من الأفكار في غاية الخطورة، بل تجعل القارئ في حيرة من أمره.

إن علماء الأمة ودعاتها تكلفوا برد كل الشبهات التي يعتمد عليها في تقديم القراءات الحداثية، بل هناك من الأبحاث التي قدمت في الرد، أو قل توضيح الأمور الملتبسة على كثير من المشتغلين بهذا الميدان، لكن يبقى صوت أصحاب القراءات الحداثية أكثر انتشارًا في وسائل الإعلام، لاسيما الإلكترونية منها، بل يُتعمد تهميش كل مبادرة أو تسفيهها حتى ينتصر توجه دون آخر، متناسين كل الدعوات الداعية إلى الحق في الوصول للمعلومة، أو الداعية إلى الحوار ومقارعة الحجة بالحجة.

ولهذا وجب علينا جميعًا، مناصرين ومخالفين لهذه القراءات الحداثية، نشر ثقافة الحوار والاهتمام بكل التيارات، لبناء أسس متينة تقضي على كل لغة فيها الاستهزاء أو السب والشتم، بل بعض الأحيان تؤدي إلى العنف المادي بعدما تستنفذ كل وسائل العنف المعنوي. ولعل أبرز محاولة لإنجاح ثقافة الحوار وفتح نقاش رصين القيام بتقديم وجهات نظر مخالفة لما هو معهود ومنتشر بشكل أوسع بين عموم المثقفين والمهتمين. واعلم أن الوقت حان لضرورة الاطلاع على اجتهادات ومؤلفات مفكرين كبار، لم يحضوا بالقدر الكافي من الاهتمام في الاعلام، إما سهوًا وإما قصدًا، ذلك أن ما يقدمونه لا يخدم التيار السائد والغالب، أو قل إنهم غير مسايرين لما هو مطلوب من المثقف.

وبهذه المناسبة سنتعرف إلى الفلسفة الائتمانية التي يقودها الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن، إذ قدم اجتهادات من خلالها في غاية الأهمية، بل فكك القراءات الحداثية للقرآن الكريم تفكيكًا، ذلك أنه بعد الانتهاء من دراستها عمل على تقديم أنموذج بديل، موضحًا كيف تكون القراءة الحداثية للقرآن ومحددًا أيضًا شروطها وخططها. وحتى يجري عرض وجهة نظر هذا الفيلسوف، والتي تعرض لها بشكل مفصل في كتابه «روح الحداثة»، خصوصًا في الفصل الرابع منه (من الصفحة 175 إلى 206)، سنعمل على تقديم تلخيص موجز مع التصرف حتى يتناسب مع المقام، مبرزين أهم الأفكار كما قدمها طه عبد الرحمن، بل مستعملين أهم المصطلحات التي أنتجها هذا الفيلسوف المبدع. ليكون في المحور الأول تقديم القراءات الحداثية المقلِّدة ونقدها، والمحور الثاني عرض القراءة الحداثية المبدِعة للفيلسوف طه عبد الرحمن.

أولًا: القراءات الحداثية المقلِّدة ونقدها:

لقد توصل طه عبد الرحمن للقول بأن: «القراءات الحداثية لا تريد أن تحصل اعتقادًا من الآيات القرآنية، وإنما تريد أن تمارس نقدها على هذه الآيات»، بل وصفها بالتقليد، إذ مارس أصحابها تقليد التطبيق الغربي الذي عرف قطع الصلة بأسباب الماضي وآثاره لما انطبع في ذاكرتهم من أشكال التخلف التي عانوها في القرون الوسطى. لتحقيق هذا المشروع النقدي، فقد اتبع ما اصطلح عليه طه عبد الرحمن «الخطط النقدية»، إذ تتكون كل خطة من الخطط الثلاثة التي حددها الفيلسوف طه من عناصر ثلاثة: الهدف، الآلية، والعمليات.

خطة التأنيس أو قل خطة الأنسنة؛ هي الخطة الأولى التي تنبني عليها القراءة الحداثية، وتستهدف أساسًا رفع عائق القدسية، المتمثل في اعتقاد أن القرآن كلام مقدس. ويتوسلون في ذلك آلية نقل الآيات القرآنية من الوضع الإلهي إلى الوضع البشري، بواسطة عمليات منهجية خاصة، كالقيام بحذف عبارات التعظيم التي يستعملها جمهور المؤمنين في وصف كتاب الله، التسوية بين رتبة الاستشهاد بين الكلام الإلهي والكلام الإنساني، وغيرها من العمليات المنهجية حتى يؤدي إلى جعل القرآن نصًّا لغويًّا مثله مثل أي نص بشري، ما يعني ترتب نتائج من قبيل فصل النص القرآني عن مصدره المتعالي، وعدم اكتماله لعدم رفعه احتمال وجود نقص أو زيادة، وأيضًا جعله يخضع للسياق الثقافي الذي تنتمي إليه لغته، وقابلًا لتأويلات غير متناهية لا يمكن لأحد ادعاء حيازة الحقيقة أو معرفة المدلول الأصلي لهذه الآية أو تلك.

خطة التعقيل أو خطة العقلنة؛ هي الخطة الثانية التي تنبني عليها القراءة الحداثية، وتستهدف أصلًا رفع عائق الغيبية المتمثل في اعتقاد القرآن وحيًا ورد من عالم الغيب. ويتوسلون في ذلك آلية التعامل مع الآيات القرآنية بكل وسائل النظر والبحث التي توفرها المنهجيات والنظريات الحديثة، بواسطة عمليات منهجية خاصة، كنقد علوم القرآن والتوسل بالمناهج المقررة في علوم الأديان، معتبرين أن وضع الكتب المنزلة واحد (التوراة والإنجيل) وأيضًا التوسل بالمناهج المقررة في علوم الإنسان والمجتمع لاعتبارهم أن النص القرآني غير مختلف عن باقي النصوص، كما تجري الاستعانة بكل النظريات النقدية والفلسفية المستحدثة، مع إطلاق سلطة العقل حتى تقرر أنه لا وجود لحدود مرسومة ولا آفاق مخصوصة، وغيرها من العمليات المنهجية حتى يؤدي إلى جعل القرآن نصًّا دينيًّا مثله مثل أي نص ديني آخر توحيديًا كان أم وثنيًّا، ما يعني ترتب نتائج من قبيل تغيير مفهوم الوحي إلى مفهوم تأويلي يسوغه العقل، وأيضًا القول بعدم أفضلية القرآن لكون ما ثبت للتوراة والإنجيل يثبت للقرآن، وعدم اتساق النص القرآني على مستويات مع غلبة الاستعارة والقول بتجاوز الآيات المصادمة للعقل، لكونها شواهد على تطور الوعي الإنساني، ما يعني إبقاء هذه الآيات والأخبار التي حملتها في سياقها الأصلي وعدم تعديتها إلى أطوار متقدمة تفوقًا ومعقولية.

خطة التأريخ أو قل خطة التأريخ؛ هي الخطة الثالثة التي تنبني عليها القراءة الحداثية، وتستهدف أساسًا رفع عائق الحُكمية المتمثل في اعتقاد أن القرآن جاء بأحكام ثابتة وأزلية. ويتوسلون في ذلك آلية وصل الآيات بظروف بيئتها وزمنها وسياقاتها المختلفة، بوساطة عمليات منهجية خاصة من قبيل توظيف المسائل التأريخية المسلم بها في تفسير القرآن (أسباب النزول، الناسخ والمنسوخ…) متجاوزين في ذلك الحدود التي وقف عندها المفسرون والفقهاء، وتغميض مفهوم «الحكم»؛ أي القول بعدم التعبير الصريح للآية القرآنية ومعرفة الوجه اليقين، وأيضًا ادعاء تجاوز آيات الأحكام التي حددوها في عدد قليل جدًّا، بل يضفون عليها النسبية وعدم تحميلها معاني مستقرة بالأحرى مطلقة، حتى إنهم أضفوا الصفة التأريخية على العقيدة بدعوى أن الآيات التي حملت لنا هذه العقائد تابعة لمستوى المعرفة في العصر الذي نزلت فيه. وبهذا يؤدي إلى جعل القرآن عبارة عن نص تاريخي، مثله مثل أي نص تاريخي آخر، ما يعني الخروج بالنتائج التالية: إبطال المسلمة القائلة بأن القرآن فيه بيان كل شيء، أي ارتباط آيات الأحكام بأحوال أو ظروف يؤدي ذهابها إلى إسقاط العمل بها، حتى أنزلوا آيات الأحكام منزلة توجيهات لا إلزام معها، أي لا تعدوا أن تكون توصيات وعظية لا قوانين تنظيمية، بل القول بأن التوجيهات القرآنية محصورة في الأخلاقيات الباطنية الخاصة، مع الدعوة إلى تحديث التدين انسجامًا مع الحداثة، ذلك أن التدين القائم يحد من حرية الأفراد، ويضيق على سلوكياتهم، بل فيه من الأسطورية ما لا يطيقها العقل، حتى رأوا أن الإيمان يورث التوتر في النفس ويضعف بالممارسة التعبدية.

إن كان واقع الحداثي الغربي تميز بقطع الصلة بكل ماض وقديم، وجعله يتطلع إلى ممارسة إبداعية مستمرة وشاملة، فإنه لا يلزم غيرهم من الأمم. لكن المتأمل في حقيقة القراءات التي حاولت تفسير الآيات القرآنية لا يخرج إلا بالقول أن أصحابها قاموا ب«إعادة الفعل الحداثي كما حصل في تاريخ غيرهم، مقلدين أطواره وأدواره»، ذلك أن كل خططهم مستمدة من واقع غيرهم، بل سارعوا إلى إسقاطها على الآيات القرآنية مكررين إنتاج النتائج نفسها المتوصل إليها بصدد التوراة والإنجيل. وقد عرفت عملية الإسقاط هذه من العيوب المنهجية ما يُفقد التحليلات قيمتها والنتائج المتوصل إليها مصداقيتها. وقد عالج بعضها طه عبد الرحمن، وكان من بينها عيب فقد القدرة على النقد، لأن نقد الوسائل المنقولة شرط تحقق الحداثة، لكن أهل القراءة الحداثية بفقدان هذه القدرة لم يتحققوا من وجود المناسبة بين الوسيلة والموضوع، بل يضاف عيب آخر هو ضعف استعمال الآليات المنقولة، إذ إنهم لم يتمكنوا منها ولا أحاطوا بأسبابها، مصرين على العمل بها رغم أنها متجاوزة، بل بعضها لم تكتمل صيغتها العلمية، ولا معتبرين تأريخيتها ولا نسبية محصولاتها، ما أفضى بهم إلى الوقوع في تهويل النتائج المتوصل إليها، نتيجة عجزهم عن نقدها، فضلًا عن ابتكار ما يضاهيها، وقلب ترتيب الحقائق الخاصة بالقرآن، لما كان من الإسقاط على موضوعات غير الموضوعات الأصل، إذ جعلوا ما هو أصلي فرعيًّا، وقدموا ما ينبغي تأخيره، بل جعلوا من الأفكار الشاذة التي ذكرها قدماء المفسرين حقائق جوهرية، وهكذا دأبهم، بل عمموا الشك على مستويات النص القرآني حتى ارتابوا في أصل النص وقدسيته وتماميته وصلاحيته؛ لأنهم أخذوا بآلية التشكيك في كل شيء، بيد أن هذه الآلية تقتصر فائدتها على مجال الظواهر، والآيات القرآنية ليست من قبيل هذا المجال وإنما من مجال القيم.

إن قراءة الآيات القرآنية بالطريقة التي رأيناها أعلاه، والتقليد الذي صاحب أهل هذه القراءات الحداثية، إذ أسقطوا بشكل آلي ما أبدع غيرهم، جعل منهم يقدمون قراءة ترجع إلى زمن ما قبل الحداثة كما يقرر طه عبد الرحمن، بل وضعوا أنفسهم اختيارًا تحت الوصاية الثقافية لصانعي الحداثة الغربية، فكانت قراءتهم بموجب روح الحداثة نفسها عبارة عن قراءات القاصرين، لا قراءات الراشدين. وهذا ما جعل الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن يقدم إجابة عن السؤال: كيف نحقق الإبداع في قراءة الآيات القرآنية؟ بعدما تقرر عنده أن لا حداثة إلا بالتحرر من الوصاية والخروج إلى الإبداع، شريطة أن يكون موصولًا بتراث الأمة، وليس مفصولًا عنه.

في الجزء الثاني من هذه المساهمة، سنتعرف إلى القراءة الحداثية للقرآن كما قدمها فيلسوفنا العظيم الدكتور طه عبد الرحمن، فانتظرونا حفظكم الله.

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى