اللغة العربية أساس التنمية البشرية في وطنها (3) – د محمد الأوراغي
العربية لغة الاتصال الرباني
من مهام اللغات أن تحفظ للإنسان توازنه النفسي، ويكون لها ذلك شأن هذه الثقافة أن تُوطَّنَ النفس البشرية على أن الإنسان حلقةٌ في السلسلة الكونية، فلا يُفارقها على الدوام اعتقاد بأن إذا حملت «ثقافة وسطية»، من الإنسان مستسلم لقوة خلاقة قاهرة ومتصرف في مخلوقات مسخَّرة ذاعنة. حتى إذا ترشح هذا الشعور تكونت في النفس البشرية «عقيدة ربانية»، من شأن قواعدها أن تولّدَ «ثقافةً وَسَطية» تضبط سلوك الناس في الخلق وفق مشيئة الخالق.
وليس كل اللغات البشرية تحمل ثقافةً وسطية، بل أكثرها مشتهر بثقافته القطبية التي تُرسّخ «عقيدة إِنْسيَّة» تقوم على مبدأين؛ أولهما خارجي يجعل من الإنسان الحلقة العليا في السلسلة الكونية، لأنه يُمثل قيمة مطلقة (6) وله بذلك أن يُسخّر لنفسه باقي حلقات السلسلة. وثانيهما داخلي ينتظمُ به الإنسان في سلمية بشرية في مرقاتها العليا أقوى الأقوام وأكثرهم تحضرا، وفي دنياها أضعفُهم وأقلهم تَمدُّناً. بل تصدَّت الوجودية وخاصة الإلحادية إلى الترعة التي تُسند للإنسان طبيعة واحدة يشترك فيها كل واحد من البشر وكان سارتر من أشد المنتقدين لفلسفة (كانت) القائمة على وحدة الماهية الإنسانية، وأن أفراد البشرية، قد وجدوا طبقاً لنموذج عام. وهو ما يظهر بوضوح من قوله: «يُغالي (كانت) في وصف هذه الطبيعة العامة للبشرية، بحيث يُساوي بين رجل الغابة والإنسان الطبيعي والبرجوازي ويجعلهم
الثلاثة يشتركون في صفات عامة (7). وبالاستناد إلى هذه التراتبية تعتبر طبيعية في “العقيدة الإنسية” و«ثقافتها القطبية» يجب على الإنسان الواقع في أعلى المراتب أن يقود أدونه، سواء كان من السلمية البشرية أو غير مرتب ضمنها.
ولن نضيف شيئا جديدا إذا قلنا إن الثقافة الوسطية لا يلزمها لزوماً وجودياً النقيضُ ولا تخلقه، بل النقيضُ من لوازم الثقافة القطبية التي لا تستقيم في غياب ثقافة مضادة ناتجة عن ردّ الفعل الثقافي من القطب المقابل. وفي غياب التكافؤ بين القطبين الثقافيين ينتفى التوازن، ويتسارع إليهما الفساد.
وعي الإنسان بكونه حلقة ضمن سلسلة كونية يتبعه من الجهة الدنيا اعتقاد بأن له الحق في أن يُسخَّرَ لنفسه سائر حلقات هذه الجهة، ويترتب عنه من الجهة العليا اعتقاد بالاستسلام لربِّ العالمين الذي يُشرِّعُ بحرية مطلقة نظاما لاجتماع الإنسان ويخلق له القيم التي يلزم عن رعايتها أن يُصيب الإنسانُ في صناعة أصوب تاريخ ممكن.
ويتردَّدُ في الثقافة الوسطية المدونة بكثير من اللغات البشرية أن ربَّ العالمين شرع للإنسان، شريعةً وأنزلها على أخيار من البشرية ليبلغوها إلى الناس كافة كي يتقيَّدوا بقواعدها فيما يقولون ويفعلون ومما يشهد على هذا التنزيل نص هذه الآيات (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَعَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا. وَرُسُلاً قَدْ قَصَصَنَاهُمْ عَلَيْكَ منْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا. رُسُلاً مُبَشِّرِينَ ومُنذرين لئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةً بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (8).
لكن بعض الناس استهوتهم مباهج المسحرات فاستشعروا كبراً عنه اعتقاد باستحقاق الحلقة العليا في السلسلة الكونية، وقمة النفس، تولد المرقاة العليا في السلمية البشرية، وبأنه لا يجوز الإذعان لغير هوى الإنسان. فهو القيمة المطلقة، ومَنْ كانَ كذلك من حقه أن يُبدعَ بحريَّة تامة الأعراف لتنظيم المجتمع، ويخلق ما يشاء من القيم لصناعة تاريخ للبشرية (9) .
وفي العهد القديم (قبل نزول القرآن المحفوظ)، شرع نفر من المشتغلين بالفكر في وَضْعِ أسس العقيدة الإنْسِيَّة، وبدؤوا يُحرِّفون الشرعَ الرباني المنزل إليهم بلغاتهم. ونفذوا الخطة بشهادة الآية “وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب لتَحْسَبُوهُ منَ الْكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكتَاب وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عند اَللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدَ الله وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّه الْكَذَبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ”(10)، وبتأكيد أخرى “فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عند الله (11). وقد سلكوا شتى السبل لإخفاء مفترياتهم التي اعتملوها بالتحريف، أو الزيادة، أو النقصان (12)، وفي الذكر المحفوظ ذكر لنماذج من المفتريات البشرية (13).
وفي العهد الحديث، بعد انحطاط حضارة القرآن، نهض فلاسفة من “عصر الأنوار” لصياغة العقيدة الإنسيَّة صياغة جديدة، وهدفهم جعلها بديلاً للعقيدة الربانية، وقاعدة لإنتاج ثقافة عصرية، فابتدعوا العقلانية (14) لها الأسباب حتى يكون الحكم كله للعقل، ويتأتى عندئذ خَلْعُ الحَقِّ عمَّا يُتناقل من المعرفة الشرعية، ويسهل على الناس الاقتناع بأن عَصْرَ الدين قد ولى.
ومع هذا الجهاد الفكري الطويل عبر العصور بُغية إقرار العقيدة الإنسية وثقافتها القطبية بدلا من العقيدة الربانية، وثقافتها الوَسَطيَّة استمرَّت العربية حاملة للذكر المحفوظ كما أنزله ربُّ العالمين على خاتم النبيين، وبقيت مذ اختارها الله للعبارة عن شرعه، لغةً الاتصال مع الخالق بكلامه. وهي تنفرد بهذه الخاصية لافتقادها في غيرها من اللغات المنتشرة في عالم اليوم.
بل ليس من بين اللغات البشرية لغة تُشارك العربية في حمل الخطاب الإلهى محفوظاً من التحريف ومصوناً من الزيادة والنقصان وليس من بينها ما يحفظ كلامَ الله المتنسك به كحفظ العربية له، ولا ما يُؤمِّنُ عبادة الله بكلام الله كما يكون بالعربية، فباستقلالها في حمل الخطاب القرآني انفردت بوظيفة التواصل الرباني، فتأهلت من بين لغات العالم لأن تُنمِّي في الفرد توازنه النفسي.
***
6 – يمكن الاستشهاد في هذا الموضع بالترعة الإنسية Humanisme في الفلسفة الأوروبية، كما تشكلت مبادئها على يد ديكارت في فرنسا وهايديجر في ألمانيا. إذ جعلت الإنسية من الإنسان قيمة مطلقة تشرع بكل حرية الأعراف وتخلق القيم لبناء المجتمع وصناعة التاريخ.
7 – جان بول سارتر، الوجودية مذهب إنساني، تعريب عبد المنعم الحق
8 – الآيات 163-165 من سورة النساء
9 – في الموضوع يقول سارتر من خلال دفاعه عن انتماء وجوديته الإلحادية إلى الفلسفة الإنسية: «إن الوجودية فلسفة متفائلة، لأنها في صميمها فلسفة تضع الإنسان مواجهاً لذاته، حُراً يختار لنفسه ما يشاء». وفي معرض توضيح الهدف من الفلسفة الإلحادية يُضيف: «لما قامت النظريات الإلحادية في القرن الثامن عشر قضت على فكرة الله فلسفيا». الفلسفة الوجودية مذهب إنساني، تعريب عبد المنعم الحفني.
10 – لتكوين صورة واضحة عما فعلت طوائف بكتبهم السماوية المنزلة على أنبيائهم تدبر الآيات 64 79 من سورة آل عمران.
11 – الآية 79 من سورة البقرة.
12 – راجع فخر الدين الرازي، التفسير الكبير، ج 8 ص 108 وفي كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان، ردد النيسابوري كلام الرازي بقوله: “وذلك أن القوم في نسبة ذلك المحرف إلى الله كانوا خابطين متحيرين. فإن وجدوا قوما من الأغمار الجاهلين بالتوراة قالوا : إنه من التوراة، وإن وجدوا قوماً عقلاء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء”
13 – تدبر مثلاً الآيات -11-86 من سورة المائدة.
14 – القاعدة الأولى في النزعة العقلانية تنصح بأنه ” ليس للإنسان أن يجزم بصدق شيء أبدا ما لمن يعلم ببداهة القعل أنه لك، وأن يتجنب الان
دفاع في قبول الأحكام السابقة والتشبث بها، وأن لا يضيف إلى أحكامه إلا ما تمثل لعقله بوضوح من غير أي احتمال للشك فيه”. للمزيد من التفصيل راجع القسم من الثاني من كتاب ديكارت : René Descartes (1637) , Discours de la méthode pour bien conduire sa raison et chercher la vérité dans les sciences