الصيف… لنحسن استثماره – خديجة رابعة

قيل قديما:

والوقت أنفس ما عُنِيتَ بحفظه                 وأراه أسهل ما عليك يضيع

من أجَلِّ النعم التي أنعم بها رب العزة على الإنسان نعمة الوقت، وما أكثر ما أقسم به الله تعالى في القرآن الكريم قائلا : ” والعصر”، ” والفجر”، ” والليل”، ” والنهار”، ” والضحى”…

قال ابن القيم رحمه الله: “إنه يقسم في القرآن بأمور على أمور، فيقسم بذاته الموصوفة بصفاته، وبآياته المستلزمة لإثبات ذاته وصفاته، ويقسم ببعض مخلوقاته للدلالة على أنها من عظيم آياته”.

وشرح الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله سورة العصر في تفسيره مفاتيح الغيب فقال : ” أقسم الله تعالى بالعصر – الذي هو الزمن- لما فيه من الأعاجيب، لأنه يحصل فيه السراء والضراء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، ولأن العمر لا يُقَوَّم بشيء نفاسة وغلاء، فلو ضيَّعْتَ ألف سنة فيما لا يعني ثم تُبتَ وثبتت لك السعادة في اللمحة الأخيرة من العمر، بقيتَ في الجنة أبد الآباد، فعلمتَ أن أشرف الأشياء حياتك في تلك اللمحة، فكان الزمان من جملة أصول النعم، فلذلك أقسم به، ونبه سبحانه على أن الليل والنهار فرصة يضيعها الإنسان، وأن الزمان أشرف من المكان فأقسم به، لكون الزمان نعمة خالصة لا عيب فيها إنما الخاسر المعيب هو الإنسان”.

فالسورة تبعث رسالة تحذيرية للإنسان، تحذره من خسارة فادحة لا تعوض، ليست خسارة الممتلكات والأغراض، إنما هي خسارة الأعمار وتبديد الأوقات.

وفي السياق نفسه يحذر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغبن في إدارة النعم، والغبن في ميزان التجارة أن يبيع الإنسان سلعة بأقل من ثمنها، أو يشتريها بأضعاف الثمن، وفي ميزان الشرع هو أن يصرف الإنسان وقته وصحته في غير محللّهما، فيصيران وبالا عليه. قال صلى الله عليه و سلم فيما رواه البخاري: ” نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ.”

وضربت د. أسماء باهرمز في مقالها الجميل ” استثمار العاقلين” مثالا ملموسا لشعور الغبن فقالت:

” ماذا لو أن مصرفا يضع في حسابك دفعة يومية بعدد ثواني ذلك اليوم 86400 ريال إلا أن هذا المصرف يسحب ما تبقى في نهاية اليوم إن لم تستطع الاستفادة منه بعد فهو لا يسمح لك بترحيل ما تبقى إلى يوم آخر، ولا يسمح لك بأن تسحب اليوم من حساب الغد. ماذا ستفعل؟ حتما ستسحب كل هللة في الحساب قبل غياب شمس كل يوم.

هل تعلم أن كلا منا لديه مثل هذا المصرف، إنه الوقت يعطيك مع إشراقة كل صباح 86400 ثانية، وفي نهاية ذلك اليوم تخسر كل ما لم تستطع تسخيره في عمل بنَّاء”. *

العمر رأس مال الإنسان، بل هو أنفس ما يملك لذلك جعله الله تعالى مناط المساءلة يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به.”

أمرنا صلى الله عليه وسلم بحسن استثماره فقال:” اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك.”

وها قد حلَّ الصيف وإجازته التي تتعدى الشهرين، وهو ما يقارب 60 يوما = 1440 ساعة = 86400 دقيقة = 5184000 ثانية.. كمّ هائل من الدقائق و الساعات!

ترى ما السبيل لاغتنام هذه الدقائق الغالية ؟ وكيف ننهض بواجب الوقت : إدارة مثلى للإجازة الصيفية ؟

أول ما يستقبل به الصيف استعاذة من العجز والكسل، وأهم ما يلزم مقاومته فيه هو ثقافة العطالة والبطالة، ومواجهة التحلل من المسؤوليات والالتزامات، والسهر حتى الفجر والنوم حتى الزوال.

وتعد البرمجة لأيام الإجازة أمرا مهما يهيئ لاستثمار أمثل لها، بحيث يتشارك في ذلك أفراد الأسرة كلهم، و يتعاهدوا على إنجاحها كلّ من موقعه، ورأينا أسرا تضع ميثاقا للصيف ينظم البيت خلال الإجازة، وينخرط الجميع في تطبيق بنوده من احترام لأوقات الاستيقاظ والنوم والوجبات، ومساعدة الوالدين و صلة للرحم..

وحبذا كل فرد يضع برنامجه الفردي الخاص إلى جانب البرنامج الأسري، لأن لكل واحد من أفراد الأسرة حاجياته وميولاته وأهدافه الخاصة.

ولعل أهم ما يستفتح به يوم الإجازة هو الاستيقاظ الباكر، يقول الدكتور محمد الغزالي رحمه الله في الإشادة بثقافة التبكير :” ومن محافظة الإسلام على الوقت حثه على التبكير، ورغبته في أن يبدأ المسلم أعمال يومه نشيطا طيب النفس، مكتمل العزم، فإن الحرص على الانتفاع من أول اليوم يستتبع الرغبة القوية في ألا يضيع سائره سدى، و نظام الحياة الإسلامية يجعل ابتداء اليوم من الفجر، ويفترض اليقظة الكاملة قبل طلوع الشمس، ويكره السهر الذي يؤخر صلاة الصبح عن وقتها المسنون، وفي الحديث: (اللهم بارك لأمتي في بكورها )، وإنه لمن الغفلة والحرمان أن يألف أقوام النوم حتى الضحى فتطلع عليهم الشمس وهم يغطون، إلى حين تطلع على آخرين وهم منهمكون في وسائل معاشهم ومصالح معادهم.”

ولعل شمول البرنامج لأنشطة جديدة ومتنوعة مثل القراءة وحفظ ما تيسر من القرآن والأحاديث النبوية، وبعض الأشعار، وانخراط في أنشطة خيرية تطوعية ودورات في اللغات الأجنبية، كفيل باستدراك ما شق على الكثير منا فعله خلال الموسم الدراسي.

و لا ننس أبدا الحاجة إلى الاسترواح بالسفر، وممارسة الهوايات الرياضية والفنية، فذلك كفيل بتجديد الطاقة وبعث القوة من جديد.

وللمجتمع المدني المهتم بقضايا الأسرة و الطفولة والشباب دوره الهام في نشر ثقافة استثمار الصيف، عبر تأطير دورات تكوينية وأنشطة تعليمية وترفيهية كفيلة بالارتقاء بالوعي الأسري في هذا الشأن، ومساهمة في انتشال الشباب من براثن الفراغ والعطالة.

والدعاة أيضا مدعوون لتكثيف حملاتهم الدعوية في الصيف، وتجديد خطابهم ووسائلهم التواصلية لتجسير علاقتهم بالشباب، وردم الهوة التي ما فتئت تتسع بينهم يوما بعد يوم.

كلنا مسؤولون.. فلنحسن استثمار الصيف !

*  كتاب”قيمة الزمن عند العلماء” د٠عبد الفتاح أبو غدة

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى