السيرة النبوية والحضارة الإسلامية – نورالدين قربال

تشكلت الحضارة الإسلامية عبر التاريخ انطلاقا من مرجعية واضحة تتجلى في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، والاجتهاد والانفتاح على كل خير كوني، لأن منطلق الرسالة هو الرحمة للعالمين. والرؤية المقاصدية، والترقي في سلم قيم التزكية، اعتمادا على جدلية الجلال والجمال في الكون، والشهادة والغيب، بناء على المفاهيم الممتعة للربوبية والألوهية والصفات.

وكون السنة النبوية قدوة وأسوة لكل من أرد أن ينهج الوسطية والاعتدال على المستوى الفردي والجماعي. خاصة عندما نستحضر التصرفات النبوية.  وفي هذا الإطار نثمن ما قامت به منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة بافتتاحها المتحف الدولي للسيرة النبوية والحضارة الإسلامية بمقرها في الرباط المملكة المغربية. وربط السيرة النبوية بالحضارة الإسلامية له دلالات واضحة في عصر بدأ يتجلى الرجوع إلى الديانات عامة خاصة الإسلام. ومن أهم الدلالات هو أن الإسلام صنع حضارة ظلت شامخة وستظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وهذه الحضارة منفتحة على كل جميل وجليل في الحضارات الأخرى لأن الحكمة هي ضالتها حيثما كانت التقطتها.

وكون المتحف بالرباط مؤشر على تعزيز المكونات الحضارية والدينية لهذه المملكة العريقة، ومرجعيتها الشامخة، والتي أصبحت قبلة لمحبي السلام والتعايش. ولذلك يجب أن نستحضر هذه المعطيات ونحن نسعى جميعا لتعديل بعض مقتضيات مدونة الأسرة. بناء على رؤية ملكية واضحة حيث لا نحل حراما ولا نحرم حلالا. كما ورد في التوجيهات الملكية انطلاقا من الدستور الذي يؤكد على أن الملك أمير المومنين وحامي الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية، والذي يؤكد هذا التوجه الديني والحضاري للمملكة هو أن هذا العمل الحضاري أقيم تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، وبهذا التدشين يقع التلقيح الحضاري بين الدول الإسلامية في علاقتها بالآخر. وتحتضن المدينة المنورة المقر الرئيسي لهذا المتحف.

لقد أكدت المنظمة على أن المتحف يضم ثلاثة مكونات: السيرة النبوية والحضارة الإسلامية. تحت إشراف رابطة العالم الإسلامي، والثاني كما تؤكد المنظمة بانوراما الحجرة النبوية الشريفة، ويعمل لأول مرة في التاريخ بتقنيات ثلاثية الأبعاد وتقنيات الواقع الافتراضي. والثالث متعلق بصلة المغاربة بالجانب النبوي الشريف الذي تشرف عليه الرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية.

لقد تم تأسيس هذا المعرض والمتحف عن طريق شراكة بين “إيسيسكو” ورابطة العالم الإسلامي، والرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب. وهذا عمل مشرف يبرز أهمية السيرة النبوية في بناء الحضارة الإسلامية. والذي أشرف صاحب السمو الملكي ولي العهد مولاي الحسن على افتتاحه بالرباط العاصمة الثقافية في العالم الإسلامي. وبزيارة هذا المعرض تقشعر جلود الزائرين ويعرفون لماذا صنف مفكر مشهور يدعى مايكل هارت مئة شخصية بصموا التاريخ البشري وجعل على رأسهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، والعلة في ذلك هو تميزه بالحكمة ورجاحة العقل، وتساهم الدلات السيميائية على مستوى القيم والمظاهر والأمكنة خاصة مكة والمدينة، مما يفتح الباب للاقتداء بشخصيته عليه الصلاة والسلام لأنه القدوة والأسوة. ويؤشر هذا المعرض كذلك على أن الإبداع الافتراضي والرقمي يخدم مضامين السيرة النبوية والحضارة الإسلامية.

إن رسالة الإسلام قوية جدا وما أحوجنا لمثل هذه المبادرات التي تخدم هذه الرسالة التي ما أحوج الناس إليها. لأنها تحمل قيما كبرى قد تقلص مما يقع اليوم من اختلالات حضارية. نحو الحرية والمسؤولية والخير والعدل والتسامح والوسطية، والاعتدال، والرحمة كما  نص على ذلك بعض الحاضرين الكرام. وهذا المعرض مؤشر على وحدة الأمة الإسلامية، ونتمنى أن يستمر هذا النفس خدمة للبشرية جمعاء. ويبدو لي أن كل قسم من المتحف له دلالاته الحضارية. فالنبي عيه الصلاة والسلام رحمة للعالمين، وحياته كله عبر ومواعظ لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورا، والفضائل والشمائل هي ديدن كل موحد لله. وآل البيت استمرارية للنبل والنور الذي شاءت قدرة الله تعالى أن ينبثق منها لحكمة يعلمها الله عز وجل. وغيرها من الدلالات التي تحمله الأقسام المعروضة. وهذه فكرة استراتيجية نتمنى أن تعمم. والذي زاده مهنية وعلمية هو التنوع اللغوي، وألقيت أمام صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير مولاي الحسن كلمة المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة السيد سالم بن محمد المالك بقاعة التضامن التي تحمل دلالات حضارية ميزت المغرب عبر العصور والأمة الإسلامية في علاقتها بالآخرين. وهذه ثقافة راقية تحتاج إلى بنية إيمانية قوية تتوق إلى ما لاعين رأت وأذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وأهم من هذا كله النظر إلى الرب الكريم بوجوه ناضرة.

إن هذا المعرض يسبح بنا في عالم القيم الإسلامية الحقيقية عن طريق سيرة نبوية مقاصدية. تتجاوز الزمان والمكان لأنها محروسة من قبل الله عز وجل. ولذلك عندما توفي الرسول عليه الصلاة والسلام قيل فيه عبر العصور نظما لم يطلق عليه الرثاء النبوي بل المديح النبوي، لأن شخصه الكريم مرتبط بالرسالة والرسالة حية لا تموت. وصالحة لكل زمان ومكان. وأتمنى أن تنظم زيارات للطلبة والباحثين والمواطنين من أجل الوقوف على سيرته عليه الصلاة والسلام، حيث العبقرية والمعجزة والكرامة والدفء والخير والبركة وإدراك معنى الحياة في علاقتها بالآخرة. وهذا ما سيؤثر في مضامين التنمية الذاتية والمجتمعية والإنسانية. فاللهم اجعلنا خير خلف لخير سلف.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى