الدكتور الحسين الموس يكتب: أضحية العيد في زمن مآسي المسلمين

يحلّ بنا عيد الأضحى هذه السنة ومحنة ضحايا زلزال شتنبر 2023 ببلادنا ما زالت مستمرّة، والحرب المدمّرة على غزة ما زالت مستعرة، وموجة غلاء الموادّ الأساسية في التهاب متزايد. وبهذه المناسبة أحب أن أؤكد على المعاني التالية:

أولا: أضحية العيد في المذهب المالكي:

لقد عظّم الله شعيرة الأضحية فقال سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]. واختلف الفقهاء في حكمها؛ فذهب الحنفية إلى وجوبها على الموسر، بينما رجّح المالكية أنها سنة مؤكدة؛ قال عبد الوهاب البغدادي:” الأضحية سنة مؤكدة يخاطب بها كل قادر عليها إلا الحاج بمنى[1]. وذهب بعض المالكية إلى أنّ من تركها وهو قادر عليها آثم، وأنه يُستحب شراؤها ونحرها على التصدق بثمنها؛ قَالَ مَالِك: “الضَّحِيَّةُ سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَلَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ مِمَّنْ قَوِيَ عَلَى ثَمَنِهَا أَنْ يَتْرُكَهَا”[2]. ومن ثم فالأصل في الأحوال العادية أن يحرص المسلم على إقامتها، وأن يغتنم المناسبة قصد تذكير أهله بمقاصدها.

  ثانيا: وجوب التكافل بين المسلمين

 إن مواساة الفقراء والمحتاجين من أوجب الواجبات؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ” الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ”[3].  وقد يتطلب الأمر قيام أولي الأمر بالدعوة إلى بعض المبادرات كما فعل النبي عليه السلام حين قدم إلى المدينة أقوام فقراء محتاجون؛ “فنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ”[4]. ولما زالت العلّة رجع الحكم إلى الإباحة. وحين قدم المدينة ناس من الأعراب، ورأى عليه السلام شدة فقرهم خطب فحث الناس على الصدقة، فجاء رجل منَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ مِنْ فضة، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ ثُمَّ تَتَابَعُوا حَتَّى عُرِفَ السُّرُورُ فِي وَجْهِه عليه السلام فقال- “مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْء”[5].

وقد أظهر المغاربة بحمد الله في حادثة كورونا وحادثة الزلزال، أصنافا كثيرة من المواساة للمحتاجين. وما أحوجنا اليوم إلى كلّ أشكال السنن الحميدة الممكنة للتّعاطي مع هذه المحنة الكبيرة التي يمر بها أهلونا في غزة. وقد دعا بعض العلماء إلى الأخذ بقول تقديم التصدق بثمن الأضحية على ذبحها، و دعا آخرون إلى تجميد لحوم الأضاحي إلى حين نقلها للمحتاجين في بلاد الإسلام وخاصة أهل غزة. 

والمطلوب هو أن يستشعر المسلمون واجب النّصرة، وأن يبادر الأغنياء إلى إنفاق كلّ ما زاد عن الحاجة وبذله للمحتاجين؛ فقد قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ، قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ، حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ”[6]

ومن المقترحات السّديدة أيضا أن تكتفي الأسرة الواحدة ولو فيها أبناء متزوجون بأضحية واحد، وتُخصص ثمن بقية الأضاحي للقيام بواجب المواساة. وقد أجاز المالكية الاشتراك في ثواب الأضحية بين أفراد الأسرة الواحدة؛ روى مَالِك عَنْ أبي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: “كُنَّا نُضَحِّي بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ يَذْبَحُهَا الرَّجُلُ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ..“.[7]

ثالثا: واجب الإحسان وحفظ البيئة

إنّ عيد الأضحى موسم عظيم يتحقق فيه رواج اقتصادي كبير يستفيد منه مربو الماشية، وتنشط فيه مجموعة من الحرف والتجارات الموسمية، وقد أجاز بعض الفقهاء الاقتراض -بطريق مشروع بعيدا عن الربا المحرم- لأجل شراء الأضحية. فإذا كانت هذه الشعيرة تحقق كلّ هذه المصالح؛ فإنه يجب التذكير بواجب الإحسان فيها، امتثالا لأمر ربنا سبحانه: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، وإعمالا لوصية النبي عليه السلام: «إِنَّ اللهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ». ويكون ذلك بكل ما فيه حفظ البيئة وحسن التخلص من النّفايات بوضعها في أكياس محكمة الإغلاق، وإخراجها في الوقت المناسب لئلا يتأذى الجيران بها؛ فقد قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ”[8].

والحمد لله رب العالمين.

*****

[1]   التلقين في الفقة المالكي (1/ 104)

[2]  الموطأ، مالك بن أنس، كتاب الضحايا.

[3] رواه البخاري عن وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ.

[4] رواه مسلم ‏عن ‏عبد الله بن واقد؛ صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الأضاحي.

[5]  صحيح مسلم، كتاب العلم، باب من سنة حسنة.

[6] رواه مسلم في صحيحه، في كتاب اللقطة، باب استحباب المواساة. من رواية أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.

[7]  موطأ مالك (3/ 693)

[8]رواه مسلم؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى