الإدريسي يكتب: فِي قيِمَة الرّشد -8-

رَغم أن لفظَة الرُّشد واشتقاقَاتها لم تَرِد إلا تسع عشرة مَرة في كل آي الذِّكر الحَكيم، إلَّا أنها تعتبر مفهُوما مفتاحيّا، وقيمَة مركزية في نسَق منظُومة القِيم القُرآنيَّة، ويروم هذا المكتوب التَّأصيل لهذه القيمة، ومحاولة التنبيه إلى أهَميتها من خلال تتبع بعض الآيات القرآنية التي تُجلي هذه القِيمة بأبعادها الوجدَانية والتَّربوية والسُّلوكية والاجتمَاعية والحضَارية.

ولا شك أن الالمَاع إلى هذه القيمة يفيد المسلم المعاصر في استثمَار مضامينها في سلوكه إلى الله تعالى، وانخراطِه في الحياة الفردية والجمَاعية بوعي ومسؤُولية وحِكمة، لأن جزء كبيرا من المشَاكل التي تعترض مسِيرة الأمَّة الإسلامِية، وتتخبط فيها كثير من الدول أفرادا ومجتمعات ومؤسسات، ترجع بالأساس إلى تغييب قيمة الرّشد في الحَياة والعمران البشري، سواء تعلق الأمر بالفَهم والتأصِيل، أو العَمل والتَّنزيل، ولذلك نجد الكثير من التّقارير والتوصِيات تحث على أهمية وترشيد التدين، والحُكم الرشيد، والحكَامة الرشيدة، وترشيد الاستهلاك، وترشيد الطَّاقات…

 إن قيمة الرشد في القرآن المجيد تستوعب كل المَعاني الواردة في الاستعمال اللغوي و الفقهي و القانوني والنفسي والاجتماعي، ذلك أنها قيمة  الرشد تفيد: ” حُسن التَّصرف في الأشيَاء وسداد المسْلك في علَّة ما أنت بصَدده”، ذكر ذلك الإمام متولي الشعراوي في تفسِيره لسورة الكهف، لأن الرّشد الوارد في القرآن الكريم رشدٌ شامل لكل مناحي الحياة، فهو يجمع بين العلم والعمل، بين الإخلاص والصواب، بين الدينا والآخرة، يجمع بين رشد الفرد ورشد الجماعة، رشد الفكرة ورشد السلوك، ولذلك افتتح الأستاذ جودت سعيد كتابه “رياح التغيير” قضايا الإنسان والعلم والتأويل” بعبارة: “العلم سبيل الرشد”، بل إن الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن جعل من مبدأ الرشد مدخلا لنقد المسلمَات التي انبنى عليها التطبيق الغربي لرُوح الحداثة، وفي السياق نفسه اقترح الكيفيَات التي ينبغي أن يتم بها التطبيق الإسلامي لهذه الرّوح، انظر مؤلفه “روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية”.

وقيمَة الرشد في النسق القرآني تفيد معاني: الهُدى والحق، والإيمان والصلاح، والنضج والسداد، والعلم والنّفع، والاستقامة والهداية، والدلالة على الخير، وهي ضد الغيّ والضلال، والسَّفه والفساد، والجَهل والقُصور، والضرو التقليد، والانحراف والزيغ.

 ونورد بعض الآيَات التي تؤكد هذه المعَاني لقيمة الرّشد، والتي تحتاج إلى وقفَات وصفَحات، يقول تعالى في سُورة البقرة: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوثقى لَا انفِصَامَ لَهَا﴾ الآية: 256، ويقول تعالى في سورة الكهف التي وردت فيها لفظة الرشد أربع مرات: ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾الآية: 52، ويقول تعالى في سورة الجن التي وردت فيها لفظة الرشد أربع مرات كذلك: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ الآيتان 1-2، وفي الآية السادسة من سورة النساء يقول تعالى﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِم أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُم إِلَيْهِم أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾…

هذه الآيات وغيرها تُشَكل إطارا عَاما لقيمة الرّشد في النَّسق القرآني، والتي تبين أن للرشد أسبابا وموانع وآثارا ومقاصد، تضمن للإنسَان أن يقوم بوظيفة الاستخَلاف في الأرْض، من منطلق الأمَانة التي تحملها، وتعكس حالة المُكابدة والمُجَاهدة التي يسلكها المُؤمن فردا وجماعة وأمة، وبالتالي فإن من مقتضيات قيمة الرشد القيام بواجب الخلافة أو الاستخلاف، ومن مؤشراتها الالتزام بالتَّكاليف العُمرانية، في أبعدها الكلية والإجرائية، والتي نميز من خلالها بين الرُّشد الكلي والرشد الجُزئي.

والمنهج القرآني متفرد في بناء مفهوم القيم وترسيخِها في فكر الإنسان وسلوكه، بحيث إنه يربط بين القيم وكينونة الإنسان، وذلك من خلال العودة بالإنسان إلى ذاته وتذكيره بأصْله وفطرته ومَسيره ومصِيره، ببدايته ونهايته، ووضع الإنسان أمام ثُنائيات الرشد والغي، الرشد والسفه، الصلاح والفساد، الهداية والضلال، الإصلاح والإفساد، النفع والضر، الاستقامة والانحراف..، لأن هذا التوجيه القرآني يدفع المؤمن إلى اليقظة القَلبية والإيمَانية، والادراك العِملي والمَعرفي، وحُسن التصرف الحَضاري، هذا من جهة.

من جهة ثانية فإن الوظيفة السامية للأنبياء، ومهمتهم الأساسية هي ارشَاد الناس إلى الاتجَّاه الصحيح، والاختيار السليم، دون إكراه أو اجبار، ودعوتهم إلى سواء السبيل، عبر التعريف بحقيقة الوجود، والتذكير بجوهر الدِّين ومقاصده في تحقيق سعَادة الإنسان في المَعاش والمعاد، والتنبيه إلى ارتباط الأسباب بالمسببات، عبر اكتشَاف السنن في الأنفس والآفاق، بما يجعل المؤمن منخرطا بمسؤولية وإيجابية وتخطيط واستشراف في معترك الحياة، التي يجعلها طيبة بعمله الصالح وإيمانه الصادق، لأن “الإنسان الراشد منطلقُ الحركة قَوي الذّات” كما قال الدكتور طه عبد الرحمن في المؤلف السَّالف ذكره.

تبقى مسألة في غاية الأهمية هو أن الرشد بالإضافة إلى كل ذلك، هو توفيق من الله تعالى، ومنة من الله على الكثير من عباده يتفضل بها عليهم نعمة ومنحة، لأنهم استجابوا لأمرهم وفوضوا الأمر إليهم، بعد أن أخذوا بالأسباب وطرقوا الأبواب، بدليل قوله تعالى :﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ سورة البقرة، الآية:186، وقوله  تعالى في سورة الحجرات الآية السابعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾.

إن ما تعيشُه الأمة اليوم، بل والبشرية جمعاء، من أزمَات ومُشكلات، وصراعات تكاد تأتي على الأخضَر واليَابس، والتي تهدد مستقبل ومصير الإنسانية، يجعلنا نطرح السؤال الآتي: كيف للأمة والبشرية أن تخرج من حَال التيه إلى مآل الرشاد؟ ومن وضع الغي والإفسَاد إلى وضْع الهدى والإصلَاح؟ وصدق رب العالمين القائل في سورة الأعراف: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ الآية:146.

والتسَاؤل الذي نختمه هذه المَقالة: كيف نتخذ قيمة الرّشد سَبيلا؟

 

 

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى