الإدريسي يكتب:  في قيمَة الرَّحمَة -4-

الرحمة من القيم الكبرى في المنظومة القرآنية، بل إن الأستاذ الدكتور خالد الصَّمدي الخبير التربوي، والذي يُشرف على فَريق من الباحثين ضِمن مشروع أكَاديمي علمي تحت عنوان “منظُومة القيم الكَونية”، اعتبر قِيمة “الرَّحمة” هي القيمة المَركزية في منظُومة القيَم القُرآنية، وذلك بالاستناد إلى مجمُوعة من الدِّراسات التّي قام بها بمعية الفَريق البَحثي الذي يشتغِل معه.

 وهو الأمرُ الذي أكده الأستاذ المُقرئ أبو زيد الإدريسي بمُقترب فِكري في كتابه “عُموم الرَّحمة وعالمية الإسْلام”، حيث بيَّن في هذا الكتاب أن قيمة الرحمة هي الأسَاس المِحوري في نسَق الرُّؤية القرآنية للوُجود، بدليل قوله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ﴾ سورة الأعراف الآية:156.

ولتَرسيخ هذه الحَقيقة يمكن أن نتَدبر سورة الأنبيَاء،  حيثُ ذَكر الله تعالى أسماء ستة عشر( 16) من الرّسل والأنبيَاء وهم:(إبراهيم، وموسى، وهارون، ، وإسحاق، ويعقوب، ولوط، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، وإسماعيل، وإدريس، وذو الكفل، ويونس (ذو النون)، وزكريا، ويحيى)، إلا الرَّسول محمد بن عبْد الله عليه الصلاة السلام فقد ذكرهُ بصِفته لا باسْمه ، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ سورة الأنبياء الآية: 107، حيث ميَّز الله تعالى خَاتم الأنبياء والمرسلين (محمد بن عبد الله عليه السلام) بميزة فارقة، لم يتميز بها أحَد أبداً كما تميز بها هو عليه الصلاة والسلام القَائل:” يَا أيُّها النَّاس إنمَّا أنا رحمةٌ مهداة ” أخرجه الحاكم، وهو المعنى الحصري الذي أكدته الآية ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، إنه استثناء تام، وحصر حقيقي، وبالتالي فكل ما جاءت به رسالة القرآن المجيد واشتملت عليه شريعة الإسلام مبنيٌّ على أسَاس الرَّحمة بالعبَاد والبِلاد.

وبالرجوع إلى كتب اللغة فإننا نجد أن أصْل الرَّحمة من: (رحم) الراء والحاء والميم أصلٌ واحدٌ يدلُّ على الرّقّة والعطف والرَّأفة. يقال من ذلك رَحِمَه يَرْحَمُه، إذا رَقَّ له وتعطَّفَ عليه. والرُّحُم والمَرْحَمَة والرَّحْمة بمعنىً، ذكر ذلك ابن فارس في: “معجم مقاييس اللغة”.

أما الاستعمَال القرآني للفظ الرحمة واشتقاقاتها فكثيف ومتنوع، حيث يؤكد المفكر المغربي أبوزيد المقرئ الإدريسي على طبيعة الحضور الكمي والكيفي للمادة المعجمية(ر-ح-م) ودلالاتها ومضامينها ومشتقاتها، التي تتوزع تقريبا صفحات المصحف كلها لتصل إلى340 موقعا، ويزيد الأمر رسُوخا أن هذا الرقم يتوزع على 32 تصريفا واشتقاقا، (أرحم ـ رحمناهم ـ ترحمني ـ سيرحمهم ـ ترحمون ـ رحمة ـ الراحمين ـ الرحمان ـ الرحيم ـ المرحمة ـ الأرحام ـ رحماء ـ رحما)، و يبرز في هذا الحقل اللغوي الاشتقاقي البديع للرحمة في القرآن حضور لافت للنظر لكلمتي رحمان (57) موقعا، ورحيم (95) موقعا.

ويميز الراغب الأصفهاني في كتابه:” المُفردات في غريب القرآن” بين الرَّحمة الإلهية والرَّحمة الآدمية بقوله:” الرحمة رِقّةٌ تَقْتَضِي الإحسان إلى المَرحومِ، وقد تستعمل تارَة في الرِّقةِ المُجَردَةِ وتارَةً في الإِحسانِ المجَرَّدِ عَن الرِّقَةِ نحوُ: رَحِمَ اللَّهُ فلانا. وإِذَا وُصِفَ به البارِي فليسَ يُرَادُ به إلا الإِحْسانُ المُجَرَّدُ دونَ الرِّقَةِ، وَعَلَى هذا رُوِيَ أَنَّ الرحمة مِنَ اللَّهِ إنعام وإفضَال، وَمِنَ الآدمِيّين رِقّة وَتَعَطُّفٌ، وفي السياق نفسه يعرف العَلامة الطَّاهر بن عاشُور الرحمة في تفسيره التحرير والتنوير بقوله:” (هي رِقَّة في النَّفْس، تبعث على سَوْق الخير لمن تتعدى إليه).

والتَّواصي بقيمة الرَّحمة من أهم أسبَاب المُحافظة على كينونة المُجتمع وتمَاسك أواصِره، قال تعالى: ﴿فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ سورة  البلد،الآيات:11 – 18، قال محمد الطَّاهر بن عاشور مفسرا لهذه الآيات: (خصَّ بالذِّكر من أوصاف المؤمنين، تواصيهم بالصَّبر، وتواصيهم بالمرحمة، لأنَّ ذلك أشرف صفاتهم بعد الإيمان، فإنَّ الصَّبر ملاك الأعمال الصَّالحة كلِّها؛ لأنَّها لا تخلو من كبح الشَّهوة النَّفسانيَّة وذلك من الصَّبر. والمرحمة، ملاك صلاح الجماعة الإسلاميَّة قال تعالى: ﴿رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ سورة الفتح، الآية: 29، والتَّواصي بالرَّحمة فضيلة عظيمة، وهو أيضًا كناية عن اتِّصافهم بالمرحمة، لأنَّ من يوصي بالمَرحمة هو الذي عرف قدرها وفضْلَها، فهو يفعلها قبل أن يوصي بها).

إن الخِطاب القُرآني يؤسس للمجتمَع التَّراحمي، الذي يجعَل الإنسَان رحيما بنفسه أوَلا، ورحيما بالآخر، من منطلق احتياج الإنسَان إلى أخيه الإنسَان ،بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو العرق، بما هو نشرٌ للرحمة بينهم، الذي يعني التعاضد والتعاطف والتعاون، في سياق بذل الخَير والمعرُوف والإحسَان لمن هو في حاجة إليه،  يقول أبو البَقاء الكفوي في كتابه “الكُليات” :” الرحمة هي حالة وجدانية تعرض غاليا لمن به رقة  القلب، وتكون مبدأ للانعطاف النفساني الذي هو مبدأ الإحسان”، وهذا المعنى العميق نجده في كل المجالات، وخصوصا التربية والتعليم والتطبيب والتمريض.

والإنسان المُؤمن بهذه القيمة المَركزية يُفتح له باب الأمَل في الله تعالى، وفي الحياة، وتجنِّبه اليأس والقنوط، يقول تعالى:﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ سورة الأنعام، الآية: 12، بل تحفزه على العمل والعطاء والبذل والتضحية، يقول سبحانه وتعالى:﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ﴾ سورة فاطر الآية: 2،  ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾، سورة الأنعام الآية: 133.

والأخْلاقُ العظِيمة للنبي محمَّد عليه الصلاة و السلام كلها منبثقة من قيمَة الرحمة، يقول تعالى:﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ سورة آل عمران الآية:159، ومنه فإن القُرآن الكريم يؤسس لقيمة الرَّحمة، ويدعو إلى التَّواصي بها ، باعتبارها قيمة مُحفزة على الإيجابية و الرسَاليّة والسمو بالنفس نحو مدارج الكمال، والاجتهاد في خدمة الخلق، يقول ابن القيم: (إن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه وشقت عليها وشقت عليها فهذه هي الرحمة الحقيق)،”إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان.” ويشير الدكتور رضوان السيد في مرجع سابق أن الرحمة تسند إجمالا إلى آيتين مؤسستين بقوله:” الآيتان المركزيتان بشأن قيمة الرحمة تَرِدان في سورة (الأنعام: 13، 54). نصُّ أُولاهُما: ﴿كتب على نفسه الرحمة، ليجمعّنكم إلى يوم القيامة﴾. ونصُّ الثانية: ﴿فقل سلامٌ عليكم، كتب ربُّكم على نفسه الرحمة﴾. وهما في السّياق الذي ترِدان فيه تتّصلان بمحاسبة الله للناس على أعمالهم يوم القيامة. والفعل كتب إشعارٌ بعُلُوّ اعتبار هذه القيمة التي هي خصيصةٌ أو صفةٌ من صفات الله، عزّ وجلّ، تتجلّى في عباده: ﴿ورحمتي وسِعت كلَّ شيْء﴾ (الأعراف: 156). لكنها تِردُ في معارضَ أُخرى تُشعِرُ جميعاً بقيمتها العُليا، مثل: بسم الله الرحمن الرحيم في بداية كلّ سورة. ثم إنّ إرسالَ الرسل لهداية البشر رحمةٌ منه، عزّ وجلّ، بهم: (الأنعام: 158، وهود: 17، والاَنبياء: 106). ثم إنها قيمةٌ ينبغي أن يتّسم بها البشر في علاقة بعضهم ببعض: ﴿واخفض لهما جناح الذُلّ من الرحمة﴾ (الاِسراء: 24) في علاقة الإنسان بوالديه. وهي سِمةٌ قيميةٌ في علاقة الرجل بزوجته وأَولاده: ﴿ومن آياته أنْ خلق لكم من اَنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودَّةً ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون﴾ (الروم: 21). وهكذا فإنّ الرحمة أو الرأفة أو النعمة، على اختلاف المورد، هي القيمةُ العليا في علاقة الله عزّ وجلّ بالبشر، أمّا فيما بين البشر؛ فإنّ القرآن يعتبرها تارةً حالةً طبيعيةً أو مُعطاة، ويعتبرها تارةً أُخرى قيمةً يكونُ على البشر في رؤيتهم وسلوكهم أن يسعَوا لبلوغها.

د. عبد العزيز الإدريسي

عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى