إصلاح القلوب وإتقان التوجه لعلام الغيوب

في وقتٍ أصبحت فيه القلوب قاسية إلا من فئة قليلة، وفي زمان ضعف فيه الإيمان واشتغل الناس بدنياهم وزخرفها وأعرضوا عن الآخرة وأهوالها إلا من ثلة محفوظة سوف أخصص حديث الجمعة عن “القلوب وأنواعها وسبيل إصلاحها” فللقلب مكانة وهو موضع اهتمام جميع الرسالات السماوية وجميع الكتب الإلهية، وجميع الأنبياء والرسل إنما بعثوا لإصلاح القلوب.

القلب تنتابه أمراضٌ حسيّة وأمراضٌ معنوية، والناس قد يهتمون بالأمراض الحسيّة خشية ما تؤدي إليه من خسارة دنيوية و لكن غالبهم يهملون الأمراض المعنوية – مع أنها أشد خطورةً – لأنها تؤدي إلى خسران الدنيا والآخرة ” ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ” [الحج: 11]

فالقلب يمرض بسبب المعاصي والذنوب والغفلة عن علام الغيوب، وشفاؤه بالتوبة والإقلاع، والقلب يصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر والقرآن وحسن الاستماع، والقلب يعرى كما يعرى الجسم، وزينته ولباسه التقوى،”يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ”، والقلب يظمأ ويجوع كما يظمأ ويجوع البدن وطعامه وشرابه المعرفة بالله ومحبته والتوكل عليه، ولم تخلق النار إلا لإذابة القلوب القاسية، بل أعظم عقوبة على العبد هي قسوة قلبه وبعده عن الله تعالى و ذكره.لذلك قال سبحانه “فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله” و حذر عباده المؤمنين من قسوته فقال سبحانه:” أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ  “.

أيها المؤمنون لنستمع إلى هذه الأصولٌ النفيسة والأسبابٌ النافعة ٌفي إصلاح قلوبنا و قلوبكم:

الأصل الأول:  اعلموا أن القلب موضع نظر الله تعالى: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) رواه مسلم.

 الأصل الثاني : واعلموا صلاح الجوارح تابع لصلاح القلب: فعن النعمان بن بشير – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال (ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) فإذا كان القلب صالحًا فتبعًا لذلك تصلح الجوارح يقول – صلى الله عليه وسلم -: (لا يستقيم إيمانُ عبدٍ حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه).

الأصل الثالث:  القلب كثيرُ التقلّب فاحذروا تقلباته: يقول – صلى الله عليه وسلم – (لـَقـَلـْبُ ابن آدم أشدُّ انقلابًا من القِدْر إذا اجتمعت غلياناً) رواه الإمام احمد، ويقول – صلى الله عليه وسلم – (إن هذا القلب كريشةٍ بفلاةٍ من الأرض يُقيمها الريح ظهرًا لبطن) وفي هذا دليلٌ على أن القلب سريع  التأثر بالفتن وهو كالثوب الأبيض يؤثر فيه أدنى أثر.و الدليل أن القلبَ عُرضةٌ للفتن: قوله – صلى الله عليه وسلم – ( عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ»، قَالَ أَبُو خَالِدٍ: فَقُلْتُ لِسَعْدٍ: «يَا أَبَا مَالِكٍ مَا «أَسْوَدُ مُرْبَادًّا»؟» قَالَ: «شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ». قَالَ: قُلْتُ: «فَمَا «الْكُوزُ مُجَخِّيًا»؟» قَالَ: «مَنْكُوسًا».

الأصل الرابع: فالنوع الأول من القلوب فهو قلبٌ عرف الحق وقبله وأحبه وآثره على غيره، قلبٌ قد أشرق فيه نور الإيمان ينكر فتن الشهوات والشبهات ولا يقبلها البتة. أما النوع الثاني من القلوب فمصاب بمرضين خطيرين هما: أحدهما أنه لا يعرف معروفًا ولا يُنكر منكرًا وربما اشتبه عليه المعروف بالمنكر والمنكر بالمعروف وأصبحت السنة بدعة والبدعة سنة والحق باطلًا والباطل حقًّا وهذا هو قلب المنافق وهو أشر قلوب الخلق، وثانيهما تحكيمه لهوى النفس وانقياده له.

الأصل الخامس: واعلموا أن الأعمالَ تتفاضلُ بتفاضلِ ما في القلوب: فقد تكون صورة الأعمال واحدة كالصلاة مثلًا ولكن بين صلاة فلان و صلاة فلان في التفاضل كما بين السماء والأرض والسبب أن أحدهما مقبلٌ بقلبه على ربه خاشع لذكره خائف من مقامه ذاكر لآخرته وقلب الثاني سارحٌ في هذه الدنيا غافل عن الله تعالى؛ يقول – صلى الله عليه وسلم – (ما من مسلمٍ يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلٌ عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة)؛ رواه مسلم. فالعبرة يا عباد الله بأعمال القلوب لا بأعمال الجوارح؛ يقول الله تعالى: ” الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ” [الملك: 2]  فقال الله سبحانه: أحسن عملًا ولم يقل أكثر عملًا، ولهذا كان الصالحون من هذه الأمة لا يهتمون بكثرة العمل و لكن بإتقان العمل. وعلى هذا الأصل فإن “عبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح”.

الأصل السادس: القلبُ هدفٌ للشيطان: لمّا علم الشيطان – عدو الله – أن مدار النجاة على القلب أجلب عليه بالوسواس والشهوات والشبهات وزيّن له الباطل ونصب له المصايد والحبائل حتى يُفسد هذا القلب ويجعله بعيدًا عن ربه ومولاه غارقًا في بحر الفتن. قال تعالى عن هذا الصنف “اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ” (19)المجادلة.

الأصل السابع: أمراض القلب خفيّة وإهمالها يؤدي إلى الهلاك: مثل الرياء والعُجْب والكِبْر والشهرة وغيرها، وهذه أمراض خفية قد لا يعرفها صاحب هذا القلب وهذا قد يؤدي به إلى الهلاك والعياذ بالله تعالى، وهؤلاء اهتموا بالأعمال الظاهرة، وأهملوا أعمال القلوب ولم يراقبوا الله في خلواتهم؛ فعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة) وخاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطّلع عليها الناس؛ يقول الحسن البصري – رحمه الله -: (النفاق اختلاف السر والعلانية والقول والعمل) ويقول بلال بن سعد (لا تكن وليًّا لله – عز وجل – في العلانية وعدوًّا له في السر).

 ذ. سعيد منقار بنيس

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى