أولى الأوليات في زمن كورونا – حسن المرابطي
اِعلم حفظك الله، أن كل مرة تقتضي منا الظرفية تحديد الأولويات، حتى يتحقق تحصيل النجاح في أقرب الأوقات وبأقل تكلفة، كيف لا ونحن نعلم أن الفقه الإسلامي تحدث عن شيء اسمه “واجب الوقت”، بل هناك من العلماء الأجلاء من فصّل الكلام في فقه يُطلق عليه “فقه الأولويات” و”فقه المآلات”، ولعل الناظر في قواعد أصول الفقه يلمس هذا بشكل أكثر، حيث تعددت الصيغ التي تضمنت هذا المفهوم، والمقام لا يسمح بدراسة كل ما ورد، لكن يكفي أن نشير تمثيلا لذلك بقاعدة “درء المفاسد أولى من جلب المصالح”، أو بقاعدة “ارتكاب أخف الضررين”.
كما لا يخفى أيضا، على كل المهتمين بعلوم الشريعة حديث علمائنا على أصناف ثلاثة من المقاصد، الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وعليه فإن الحياة تقتضي منا ترتيب الأولويات فيما بينها، وكذلك موازنتها بالمفاسد تارة أخرى، كما وجب عدم إغفال تقديم الضروريات على الحاجيات وكذا الحاجيات على التحسينيات، ذلك حسب الوقائع والأحداث؛ ولمن أراد الاستزادة بحثا في هذا، ما عليه إلا تصفح كتب القدامى أو المعاصرين، لاسيما عند من عُرف بدراسته لعلم مقاصد الشريعة.
في المقابل، عند النظر في أحوال الأمم الأخرى، بعيدا عن تقييم تجاربهم أو مدى موافقتنا مرجعياتهم من عدمه، نجد أن وضعهم لم يعرف التقدم إلا بقدرتهم تحديد أولوياتهم، بل المنظمات السياسية عندهم تتنافس في إقناع المنتخبين باعتبار القطاع الفلاني دون غيره في مركز اهتمامهم، وعليه يتحصل لديهم التفوق وتجاوز كل الأزمات. كل هذا يحيلنا إلى القول أن نجاح منظمة أو شعب ما مرتبط بقدرته على ترتيب أولوياته، أو قل تحديد رؤية واضحة قابلة للتحقق. لكن، في هذا الظرف العصيب الذي تمر منه الإنسانية جمعاء، حيث تعرف انتشار فيروس كورونا المستجد، هل تبقى الأولوية للقطاعات التي حُددت أم أن الوضع يقتضي الدخول في حالة استثنائية مع تحديد أولوياتها الآنية؟
إن العالم بشكل عام، لم يعد يفكر في شيء إلا في الطريقة المثلى والأقل تكلفة لتجاوز الجائحة أو الوباء العالمي، حيث شهدنا توقف معظم الأنشطة الاقتصادية، والتي كانت المرتكز، لاسيما في الدول الكبرى، حتى تهاوت بورصات عالمية وتسجيل خسائر تقدر بآلاف الملايين. لكن، إن تمعنا النظر، لن نعتبر هذا بالأمر الفظيع مقارنة بفقدان الإنسان، لأنه هو صاحب كل هذه الانجازات. لذا، فإن لسان حال العالَم يقول: كل الخسائر مقبولة ومعقولة إلا فقدان الإنسان لأنه محور كل شيء، بل فقدانه يعتبر فقدانا لكل المنجزات، وعليه فإن غاية الجميع هو إنقاذ الإنسانية لأنه أولى الأولويات وأسمى الغايات، حتى أن عقلاء العالم تناسوا كل الخلافات وتأجيلها إلى وقت آخر، إلا ما كان نشازا.
وعليه، فإن حال بلادنا لا يختلف عن حال غيرنا، بل هدفنا لا يختلف عن هدفهم المتمثل في إنقاذ الإنسان من تعرضه للفيروس المعلوم، ولو على حساب الاقتصاد، بيد أن هذا الهدف لن يتحقق إلا بتوحيد المجهودات، لأن دولا عظمى تعاني الويلات من تفشي الوباء فيهم، رغم كل التقدم الذي ما فتئنا ننبهر به، حتى ظن بعضهم من شدة اليأس حصد آلاف الأرواح والخسائر الاقتصادية، لكن قوة إيماننا بالله وقدرة شعبنا العظيم تبعث الأمل، مما جعل حالنا أفضل بكثير ممن كان بالأمس معجبا بنفسه إلى حد الغرور.
لهذا، يبقى السبيل الأوحد للنجاة هو توحيد المجهود، ذلك بالالتزام التام للإجراءات الاحترازية الصادرة عن الجهات الرسمية، مع التخلي، ولو لحظيا، عن دور الزعامة الذي أصبح يشكل التهديد الأكبر، حيث الكل يود نسبة الفضل لنفسه بالتنافس إلى أخذ المبادرات دون التنسيق مع الجهات المختصة والاستشارة معهم، بل ما يزيد الأمر تعقيدا، التفنن في ممارسة المعارضة من خلال باب النضال (الشفهي طبها)، والنضال بريء من أساليب بعض محبي الزعامة في وقت الأزمة، حتى وصل الأمر ببعضهم إثارة بعض القضايا التي لم تُحسم في وقت الرخاء من شدة تعقيدها، فكيف بنا ونحن نعيش حالة الطوارئ الصحية التي تشبه إلى حد ما ظروف الحرب.
وأخيرا، وجب التنبيه إلى ضرورة المساهمة في تجاوز الأزمة بالحجر الصحي أصالة، وإن كان ولابد من التحرك، فلا وجود لأي مسوغ الخروج للشارع أو على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي من أجل إثبات الذات، الأمر الذي يشوش بعض الأحيان على مجهودات السلطات المحلية والوطنية، حتى أمسى لسان حال بعضنا يقول : أنا أظهر إذن أنا موجود (هذه الفكرة مستمدة من الفلسفة الائتمانية للفيلسوف طه عبد الرحمن)، بل لا يوجد اليوم أفضل من تقديم النصيحة أو الاستشارة لأصحاب القرار مباشرة أو عن طريق الوساطة، لأن ما يبدو لأحدنا من آراء في غاية الروعة، قد يُسبب الارتباك لمن هو ممسك بزمام الأمور لاطلاعه على بعض الأمور التي تخفى عنا رغم كل ما يظهر، هذا مع علمنا المسبق أن كثيرا ممن يُسرع إلى الظهور بمظهر الزعيم، له من العلاقات ما يكفي لإيصال رسالته دون أن نعلم، لكن الإنسان المعاصر محب للظهور حتى ظن أن في ظهوره الوجود كما سبق معنا.
اللهم ارزقنا المنطق والعمل به،
اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل،
اللهم ارزق مسؤولينا الصبر والثبات ونجب بلادنا الأزمات، وذكر أعضاء اللجنة المكلفة بالنموذج التنموي بدور الإنسان وأهميته عند الصياغة النهائية.