أحمد العماري.. منارة علمية مغربية ومفخرة للحركة الإسلامية – عبدالهادي باباخويا
من علامات سلامة المنهج وصحة سبيل أي حركة إصلاحية، هو في مدى اهتمامها برموزها الأعلام وقادتها المؤسسين. والعناية بجهادهم وتضحياتهم، والإفتخار بمنجزاتهم والإعتزاز بأدوارهم، وما قدموه في مسيرتهم، إصلاحا لأوضاع الأمة وتصويبا لأفكارها وتصوراتها، وترتيبا لشؤونها الثقافية ومواجهة لتحدياتها الهائلة حتى تكون أجيال الأمة سلسلة متراصة من الأعمال، يكمل بعضها بعضا، ومسار منسجم من الجهود، يقوي آخره أوله..
والعلامة المجاهد والمفكر الكبير الدكتور أحمد العماري، واحد من منارات مغربنا الحبيب، ومن مفاخر حركة التوحيد والإصلاح علما وعملا وإنجازا، ورصيدا يعتز به كل من انتمى لهذا المشروع الإصلاحي العظيم، وحافزا لشحذ همم القائمين على شؤون الحركة، على الصبر والمثابرة في هذا الطريق، والتفاني في إنجاز المهام والوظائف.
فتجربته العلمية والفكرية شامخة، ومساهمته الدعوية والتنظيمية رائدة، وتراثه المكتوب والمسموع والمأثور شاهد على روعة هذه المسيرة. فنال بحق رمزية التقدير والتنويه بعطائه وبذله وإخلاصه، واستحق أن يعتنى بكتاباته الفكرية وأطروحاته العلمية ومبادراته التجديدية، لأهميتها وحاجتنا لنفائسها وذررها.
أولا- نبذة مختصرة من سيرته:
هو أحمد بن محمد العماري، من مواليد سنة 1362ه/ 1943م بنواحي مدينة فاس. درس مختلف أطوار التعليم الأساسي بها، وتابع دراساته الجامعية وتخصصه الأكاديمي بجامعة محمد الخامس بالرباط، حيث حصل على الماجستير في التاريخ المعاصر سنة 1987، ثم الدكتوراه في تاريخ الفكر المعاصر سنة 1992.
خبر الجامعة طالبا وأستاذا، وباحثا مبرزا في تخصص التاريخ المعاصر. له دراسات وأبحاث كثيرة في الفكر والحضارة والسياسة والتاريخ، وفي رصد تجربة الحركة الإسلامية وتقويم مسيرتها. طبع منها القليل، لكن يبقى أغلبها غير منشور.
دخل إلى الصف الإسلامي الحركي، من خلال اطلاعه على أدبيات جماعة الإخوان المسلمين، فأعجب بهذه التجربة، وانخرط في العمل الإسلامي وهو شاب أواخر الستينات، بمعية نخبة من طلبة وأساتذة الجامعة بفاس، في مقدمتهم د. الشاهد البوشيخي ود. عبد السلام الهراس وذ. لمفضل الفلواتي.. حيث تم في سنة 1974 تأسيس جمعية الدعوة، بهدف إصلاح المجتمع المغربي بمنهجية محلية، تراعي خصوصيات البيئة المغربية ومتطلبات شروط التغيير.
ثانيا- مساهماته في مسيرة العمل الإسلامي بالمغرب:
هو من مؤسسي جمعية الدعوة بفاس، حيث كان اهتمامها بقضية المنهج، في إرساء معالم المشروع الإصلاحي للحركة الإسلامية بالمغرب. فهي ترى أن المنهج أساس العمل، سواء في بناء التصورات أو في التخطيط للبرامج، وكذلك في إنجاز الأعمال والأوراش الدعوية. وكان دور العماري محوريا في التأسيس لهذا المنهج الراشد، وفي متابعة إجراءاته وتفاعلاته. حيث ساهم تكوينه العلمي الجامعي، وتخصصه في التاريخ وتعمقه في الثقافة الشرعية، في بنائه على مرتكزات علمية قوية وبمرجعية متينة.
وهو أحد مهندسي الوحدة المباركة لحركة التوحيد والإصلاح بمراحلها الثلاث، حيث دفع بكل جهده إلى جانب قادة آخرين، في إخراج الحوار والتنسيق بين الجماعات الموحدة من الركود، وأحْدَثَ خطوات معتبرة جعلت مسيرة الوحدة تتخطى عقبات كبيرة، وتتجاوز تحديات خطيرة. لتصل إلى الاندماج التام، بشروط متوافق عليها، وبمنهج واضح المراحل والخطوات.
عاش مختلف التحولات التي عرفتها حركة التوحيد والإصلاح، وساهم بقدر معتبر وبمجهود كبير في بناء منهجها وإرساء مرجعيتها. وكان من المدافعين بقوة عن المشاركة السياسية، وعن الانسياب الواعي في مؤسسات المجتمع، بما يخدم الفكرة الإصلاحية وآفاقها التجديدية.
ثالثا- أطروحته العلمية في منهج التفسير الحضاري للتاريخ:
من الكتابات المهمة والنفيسة للدكتور العماري “نظرية الاستعداد في المواجهة الحضارية للاستعمار: المغرب نموذجا”. كشف فيها عن طبيعة التفاعل الذي خلفه الانفجار، في العلاقة بين الحضارة اللاتينية المعاصرة، التي كانت في حالة تجدد وتطور وهجوم، والحضارة الإسلامية التي كانت في حالة جمود وتراجع وانهزام.
فالخلل الذي حدث في توازن العلاقة، نتيجة تطور الأولى وتفوق تقنياتها وتجدد هجومها، وتراجع الثانية وانحلال آلياتها التقليدية العتيقة وتفكك منظومتها. خلق تفاعلا جديدا من منطلق، البحث عن القوة كقانون في التوازن والمماثلة، وأدى أيضا إلى ظهور فكرة الاستعداد كمشروع في المواجهة، لتجديد الهياكل والتقنيات بقصد الحصول على القوة المتكافئة مع الآخر، وتطورها نحو فكرة التحديث كضرورة شرعية، لعلاج أزمة الجمود الحضاري والانهزام العسكري أمام الزحف الاستعماري المعاصر.
فنظرية الاستعداد هي محاولة علمية لتفسير حركة التاريخ، من خلال تشخيص الخلفية الدينية الحضارية للمغرب، وعبر رصد مرجعية الغزو الفرنسي ونظامه، ثم استعراض مفهوم الاستعداد وأصوله عند علماء المغرب، وتطوره نحو فكرة التحديث أو قانون المعاصرة.
إنها مساهمة رائعة في إعادة بناء وعي الأمة، على قوانين التمكين وأسس بناء القوة الحقيقية، وبيان شروط إحياء الذات الحضارية للأمة، كمركب حضاري تعرض لعملية التفكيك والغزو من طرف الحركة الاستعمارية الغربية المعاصرة.
إن أقعد المرض الدكتور العماري وأبعده عن مسيرة العمل الحركي، فمن حقه علينا زيارته وتفقد أحواله، وإنعاش ذاكرته العلمية والدعوية، وإشباع تعطشه للإخوان وذكرياته في العمل معهم لخدمة الفكرة الإصلاحية للأمة، ثم التفكير في سبل الاستفادة من ثروته المعرفية وتجربته الحركية.