د الحسين الموس يكتب: أحكام الصوم ومقاصده (1)
الحلقة الأولى: مقاصد الصوم
أولا: التعريف والمقاصد
كتب كثير من العلماء حول مقاصد الصوم، فمنهم من ذكرها متفرقة عند تفسير أو شرح النصوص المتعلقة به، ومنهم من خصه بمبحث خاص أو كتاب، وسأحاول انطلاقا مما قرأته لهؤلاء أن أعرض بعض مقاصد الصيام باعتباره عبادة حض عليها الشرع فرضا ونفلا، وكانت من هدي الصالحين، ثم بعد ذلك أتحدث حول مقاصد شهر رمضان، الذي يتضمن ركن الصيام بالإضافة إلى أعمال أخرى يشترك فيها المسلمون فأقول وبالله التوفيق.
التعريف: الصوم لغة الترك والإمساك قال ابن منظور: ” الصَّوْمُ في اللغة الإمساكُ عن الشيء والتَّرْكُ له وقيل للصائم صائمٌ لإمْساكِه عن المَطْعَم والمَشْرَب والمَنْكَح وقيل للصامت صائم لإمساكه عن الكلام وقيل للفرس صائم لإمساكه عن العَلَفِ مع قيامِه” .وفي الشريعة الصوم إمساك مخصوص بنية، قال ابن العربي: ” الصوم هو الإمساك عن الطعام والجماع”. وقال القاضي البغدادي: “الصوم الشرعي هو إمساك عن الأكل في جميع أجزاء النهار بنية قبل الفجر أو معه إن أمكن فيما عدا أزمان الحيض والنفاس وأيام الأعياد والذي يجب الإمساك عنه في الصوم نوعان أحدهما إيصال شيء إلى داخل البدن والآخر إخراج شيء عنه” وسنعود لتفصيل ذلك عند الحديث عن الأحكام
أولا مقاصد الصوم:
المقصد الأول: النية وتجديد القصد
من أهم ما يعالجه أرباب السلوك مسألة النية، التي هي روح الأعمال، والتي بدونها تصبح الأعمال سراب لا يغني شيئا. وقديما قال الشاطبي رحمه الله: (إن المقاصد أرواح الأعمال)، وإن عبادة الصوم محطة كبيرة تعلم المسلم معالجة النية وتجديدها، وتربيه على ابتغاء رضا الخالق عز وجل في كل أعماله. وقد جعل الفقهاء المالكية رفض النية سببا موجبا لفساد الصوم ولو ظل الإنسان ممسكا عن الطعام والشراب والجماع.
إن الناس اليوم يتكلمون عن المنافع البدنية والنفسية للصوم، بل وجدنا بعض الناس يصومون صيام المسلمين، وقد تكون تلك الفوائد أو بعضها صحيحة، لكن عبادة الصوم أبعد غورا من ذلك، أنها تخاطب قلب المؤمن ليصبح من المتقين ولينسجم في قصده مع مراد ربه. قال عبد الله دراز: (الصوم في الإسلام لا يكفي فيه المظهر السلبي المادي، الذي يقوم على اجتناب المفطرات لأي باعث كان ولأي هدف اتفق. وإنما هو قبل كل شيء عمل روحي إيجابي، يتحرى فيه العامل الهدف الذي حددته له الشريعة، ويجعل نيته فيه، وفقا لإرادة ربه منه). إن الصوم سر إلهي بين العبد وربه، ولذلك رأى الأمير الصنعاني أن ثمرات الصوم في حياة الفرد راجعة” َلِسِرٍّ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّوْمِ ، فَلَا يَنْفَعُ تَقْلِيلُ الطَّعَامِ وَحْدَهُ مِنْ دُونِ صَوْمٍ” أي دون نية الصوم الشرعي.
إن هذه النية والقصد هي التي ترتقي بالعمل ليكون خالصا لله تعالى، وليكون له الجزاء العظيم الذي لا يعرف قدره إلا الله تعالى. روى البخاري وأصحاب السنن عن أبي هريرة – رضي الله عنه – : أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يضاعَفُ : الحسنةُ عشر أمثالها إلى سبعمائةِ ضِعْف ، قال الله عزَّ وجلَّ : إلا الصوم ، فإنه لي ، وأنا أجزي به ، يَدَع شهوتَهُ وطعامَه من أجْلي، للصائم فرحتان ، فرحة عند فِطْره ، وفرحة عند لقاءِ ربِّه..) . وهكذا فالمراقبة الإلهية وتجديد النية هي التي تمنع المسلم من انتهاك حرمة الصيام ولو لم يطلع عليه، وهي التي تعوّده المراقبة في كل أحيانه لربه، وتجعله ينتصر في امتحانات الدنيا.
المقصد الثاني : استلام زمام قيادة النفس
ثاني مقصد من مقاصد الصوم هو تحرير المسلم الصائم من جاذبية الشهوات والأهواء، بحيث يسمو بروحه ويعرج بها إلى ربه، فتصبح النفس قائدة للبدن ومُسيرة له. فالصوم بما هو امتناع عن الأكل وشهوة الغريزة الجنسية فرصة للتغلب على النفس و كبح جماح شهواتها، وهذا هو لب التقوى التى أمر الله عز وجل بها، وجعلها من مقاصد الصيام : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. قال بن حجر”ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات و تطويع النفس الأمارة بالسوء، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر القبول”.
وتشهد لهذا المعنى القاعدة المقاصدية:”ما يظهر فيه تكليف بما لا يطاق فالمقصود سوابقه أو لواحقه أو قرائنه” . فالجوع والعطش والمشقة التي يجدها بعض الناس في الصوم، وقد يتحملونها بصعوبة غير مقصودة للشارع الحكيم؛ بل يراد منها لواحقها وثمارها التي تتجلى في كسر النفس الأمارة بالسوء، وتعويدها الطاعة والامتثال، ووقايتها من الاسترسال مع الأهواء. ويشهد لذلك ما رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ”. ونقل عن بن الْعَرَبِي بأن الصوم جنة لأنه يقي صاحبه من الشهوات التي تؤدي إلى ارتكـــاب المعاصي . وهكذا فثمرة الصوم معراج يعرج به المؤمن من أسر ورق الشهوات إلى رحابة الملأ الأعلى، ومن ” حضيض الانغماس في المادة إلى أَوج العالَم الرُّوحاني ، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية.”
وربط الله تعالى في كتابه بين الصوم وحفظ النفوس من الوقوع في الزنا فقال سبحانه:{وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35]. ويشهد لأثر الصوم في تحصين الانسان من الوقوع في الزنا ما رواه البخاري عن عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ بِمِنًى فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَخَلَوَا فَقَالَ عُثْمَانُ هَلْ لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي أَنْ نُزَوِّجَكَ بِكْرًا تُذَكِّرُكَ مَا كُنْتَ تَعْهَدُ فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى هَذَا أَشَارَ إِلَيَّ فَقَالَ يَا عَلْقَمَةُ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ أَمَا لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ لَقَدْ قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ.”
إن الأمة التي لا تقوى على ضبط غرائزها والتحكم في شهواتها لا تنتصر على أعدائها، ولا يقف أفرادها أقوياء في معركة البناء الحضاري القائم على بذل الوقت والجهد في العلم والتعلم وتقديم النفع للأمة. ومن هنا فإن عبادة الصوم تعلم أفراد الأمة ضبط النفس، ولجمها عن الاسترسال مع طلباتها وشهواتها.
إن قصص بني إسرائيل في القرآن تؤكد أن خور عزائمهم، وضعفهم عن مواجهة أعدائهم يرجع إلى ما سيطر على قلوبهم من حب الشهوات، فقد توسلوا بموسى عيه السلام ليسأل الله أن يعطيهم ما ألفوه من طعام أدنى مع أن الله تعالى عوضهم الأفضل، كما أن فئة منهم سقطت عند أول امتحان وضعه لها ملكها طالوت في ترك الشرب من ماء النهر. قال الله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 249].
وقد ابتلي المسلمون في العهد النبوي بمحطات كبرى، كانت فيها دروس تعلم الانتصار على النفس وكبح جماحها، ومن ذلك ما وقع لهم في عمرة القضاء حيث كانت الطير والوحوش قريبة منهم سهلة الاصطياد ونزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94] قال الألوسي: “وفائدته التنبيه على أن من لم يثبت في مثل هذا كيف يثبت عند شدائد المحن ” .
المقصد الثالث : تطهير النفس من رديء الأخلاق وكسوها بمحاسنها
من مقاصد الصوم أيضا أنه يطهر الصائم من رديء الأخلاق، وخاصة إذا صام صيام العارفين الذين لا يكتفون بصيام الجوارح، بل يصيفون إليه صيام النفوس عن كثير من المعاصي والمحرمات.
وهكذا فإن معاناة الصائم لمرارة الجوع والحرمان، تعلمه أن ينظر إلى الفقراء والمحتاجين بعين الرحمة، وأن يعطيهم مما أعطاه الله تعالى. فيسود الجود والعطاء بين أفراد الأمة بدل الشح والبخل. روى البخاري عَنْ ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ.)
ويتجلى هذا المقصد أيضا في ردع المؤمن عن الاسترسال مع الغيبة والنميمة والزور. فيصبح الصائم قادرا على التحكم في كلامه، فلا يتلفظ بالكلام البذيء ولا يغتاب ولا ينشغل بحرمات الآخرين. روى مالك عن أبي هرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ فَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ).
وذهب بعض الفقهاء اعتمادا على قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ، فَليسَ للهِ حاجة فِي أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ) إلى أن الغيبة والنميمة وقول الزور والكذب من المفطرات يجب القضاء على فاعلها لكن جمهور الفقهاء وإن رأوا أن النهي في الحديث محمول على التحريم إلا أنهم خصوا الفطر بالأكل والشرب والجماع.
وخالف أصحاب الزهد والتصوف الفقهاءَ حيث اعتبروا تمام الصيام في الكف عن جوارح اللسان من غيبة ونميمة، قال ابن العربي: (وكما يقول الفقيه للصائم إذا أكل أو جامع أفسدت صومك ولن يجزيك في الامتثال في الأمر ولا الاجتناب في النهي، فكذلك يقول له الزاهد: إذا كذبت أو اغتبت أو فعلت معصية لم يتقبل منك صيامك. فأحد الحكمين تأثيره في الدنيا والآخر لا يظهر إلا في الآخرة)..
وهكذا نخلص إلى أن مقاصد الصيام وحكمه كثيرة جماعها التقوى، التي تعني انتصار المسلم على النفس، بأن يحملها على فعل الطاعات وترك المعاصي والمحرمات، وأن يتحلى بحلل من جميل الأخلاق.
الدكتور الحسين الموس عضو المكتب التنفيذي
الهوامش:
- من هؤلاء القدامى العز بن عبد السلام الشافعي والذي ألف رسالة مقاصد الصيام وهي مطبوعة، ومن المعاصرين الشيخ الأزهري عبد الله دراز حيث جمعت له حلقات حول مقاصد الصوم في كتاب بعنوان: ” الصوم تربية وجهاد”، ولشيخنا أحمد الريوسني مقالة بعنوان مقاصد الصوم.
- لسان العرب، ابن منظور (12/ 350)
- القبس، ابن العربي، ج2، ص 477.
- التلقين، القاضي عبد الوهاب البغدادي، ص 91.
- الموافقات، الشاطبي. (3/ 44)
- قال صاحب التلقين:” وكذلك كترك النية عمدا أو سهوا أو خطأ…”
- الصوم تربية وجهاد، عبد الله دراز، ص 46.
- سبل السلام 4/ 424
- صحيح البخاري
- فتح الباري ، ابن حجر، (ص611 مجلد 4 )
- قواعد المقاصد، أحمد الريسوني، ص 279
- قوله في القبس هو : ” وكما حرم الطعام والجماع على الصائم لعله يتقي بصيامه فمه وفرجه عن الشهوات، فكذلك لزمه أن يصون جوارحه عن السيئات” القبس، ابن العربي، ج 2، ص 480
- التحرير والتنوير2 / 134
- صحيح البخاري
- تفسير الألوسي (5/ 130، بترقيم الشاملة آليا)
- صحيح البخاري،
- الرفث بالفتح يعني هنا الكلام الفاحش، وليس مقدمات الجماع .
- موطأ مالك، كتاب الصوم، جامع الصيام.
- من هؤلاء ابن حزم، والأوزاعي.
- صحيح البخاري عن أبي هريرة،
- القبس، ابن العربي، ج 2، ص 480