أثر الكلمة وأهمية الصدق في التأثير

الكلمة لغة التواصل مع الآخرين، وكثيرا ما نرى أو نسمع عن خطابات كثيرة، الخطابات السياسية أو الإعلامية، الخطب المنبرية، الخطب التحسيسية التوعوية، الخطب الإنذارية الإرشادية. كل هذه الأصناف يجتهد أصحابها من أجل إبلاغ أفكارهم ورسالتهم متوسلين بكل فن أو علم يساعدهم على النجاح في هذه المهمة بغية التأثير في غيرهم وإثارة انتباههم. 

تسعى كل وسيلة من وسائل التواصل إلى تجويد الخطاب/ الكلمة مطلوبة شرعا وعقلا وواقعا، بل هي لا زمة في نجاح الخطاب. ولهذا الغرض أُلفت عدة كُتب وكتبت مقالات شتى حول فن التأثير في الآخرين وقواعد الخطاب الناجع، كما أسست لذلك مراكز تعنى بهذا الشأن وغيرها من الوسائل الأخرى التي تخدم فن التأثير بالكلمة.

   والسؤال المطروح: كيف يؤثر بعض الخطباء في الناس في مقابل عدم تأثير البعض الآخر في الناس؟ وما السبب في ذلك؟

      نرى عبر العصور أن بعض المتحدثين يحدثون أثرا في الناس وآخرين لا تكاد تجد لهم مثقال ذرة من أثر في نفوس وعقول الناس، رغم كون هذا الصنف الأخير يملك من الطرق والوسائل القديمة والحديثة الكثير، في مقابل الصنف الأول الذي يتحدث بما يملك من الخطاب على طبعه العادي الذي فطر عليه، فلم يتمكن من الإحاطة بعلوم وفنون فن الخطاب ولو أحاط بها لكان ذلك نافعا مفيدا له من أجل تأثير أكثر.

    تتعدد قراءات الأسباب الكامنة وراء التأثير من عدمه، ومن بين الأسباب التي أرى لها تأثير في نجاح الكلمة، صدق السريرة وما انطوت عليه من قصد ونية، ولنا في التاريخ أمثلة عديدة منها:

  • رسولنا الكريم محمد عليه السلام، الذي لا ينطق عن الهوى وصاحب جوامع الكلم وبلاغة الخطاب وفصاحة اللسان فكل ذلك من معينات نجاح الخطاب، ولكن ما الذي ميزه عن كثير من الزعامات الأخرى التي لم تستطع الوصول بخطاباتها إلى الآخرين؛ إنه الصدق وإخلاص النية في الكلمة، فمحمد عليه السلام يسمى بالصادق الأمين، وقد اعترف له بذلك المشركون في مكة كما هو معلوم في التاريخ.
  • بلال بن رباح، رضي الله عنه، العبد الحبشي الذي لم يتدرب كثيرا في مراكز تدريبية وبحثية تعنى بفنون إلقاء الكلمة، كيف استطاع إحداث زلزال في عقول وقلوب المشركين، إنه الصدق مع الله أولا وأخيرا، فلم تكن كلماته نغمات وجملا وحروف يتغنى ويترنم بها تظاهرا، وإنما كانت كلمات صادرة من صدق الفؤاد.
  • مثال آخر من الأمثلة الرائعة التي كان لها الأثر البليغ في نفوس الناس، الرجل الصالح حبيب النجار الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، يدعو الناس إلى اتباع المرسلين فكان أن قُتل، فكيف أمكنه اختراق القوم وخلخلة معتقداتهم وبيان فسادها، والتأكيد على صدق دعوة الرسل، هل كان ذلك بسابق تجربة تكوينية تمرن فيها حبيب النجار على فنون التأثير في الآخرين، ها خاض تجربة التنافس من أجل التألق من محفل من المحافل التنافسية؟، كل ذلك محمود لمن وجد فرصة تعلمه ومعرفته والاستفادة منه، ولكن حبيبا ما أدرك ما حبيبا  كانت قوة تأثيره أساسها الصدق.

     يقول فريد الأنصاري، رحمه الله، متحدثا عن بعض الهدى المنهاجي بعد البيان العام لقصة حبيب النجار:” إن البلاغ المبين ليس من زخرف القول، ولا في ترصيف الجمل وتنميق العبارات، وإنما هو إصدار الكلام الصادق الذي ينبض بالحياة، الكلام الذي ينبع من أعماق القلب، فلا تفارقه حرارة الوجدان ومواجيد المحبة والإخلاص، حتى يقع في قلوب السامعين غضا طريا، فالبلاغ المبين هو تعبير عن حرارة الإيمان ومكابدة القرآن، في زمن التيه والضلال حرصا صادقا، واشفاقا خالصا، على جموع التائهين، وقوافل الضالين، وقياما بحق رب العالمين.”

      ويسترسل في القول مبرزا قيمة الصدق فيقول:” والصديقية ذاتها منازل ومراتب، وأبو بكر الصديق، رضي الله عنه، كان إمام الصديقين في هذه الأمة، وعلى الداعية الاقتداء يجعل بهؤلاء الفحول في دعوته عسى أن ينال من صفاتهم ما يجعله على طريقهم، وإن لم يصعد إلى قممهم العالية.

    إن جبال الإيمان مدارج، كلما اجتهد العبد في مكابدتها ازداد رفعة وعلوا، وكلما زاد رفعة كان من أهل العزائم بإذن الله؛ فيجري الله على لسانه عزيمة البلاغ المبين بإتباع الطريق المستقيم، الطريق العملي القويم طريق الصدق مع الله في القول والعمل، فلا يصدر عن المؤمن شيئا من ذلك إلا عن خالص الصدق، يتحراه في كل شيء؛ فلو صلى أو صام أو تصدق أو جاهد، لم يخط خطوة واحدة في فعله حتى يخلصها إخلاصا لله، ولا يتصرف في شيء من أمره إلا لله وبه، وذلك هو الصديق. فعن عَبْدُ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا﴾.

[صحيح مسلم، كتاب : البر والصلة، باب : قبح الكذب وحسن الصدق وفضله]

ذ. عبد الحق لمهى

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى