فتنة التيه – زهراء الـݣرش

تتظاهر أمام الجميع أنك سعيد وأنك في قمة الاستمتاع، ولكنك حين تخلو بنفسك يتغير حالك وتبدأ موجة الحزن تحيطك من كل جانب. وتتساءل السؤال الذي أصبح يفرض نفسه ويتكرر في كل مرة “ماذا أريد؟”.

سؤال سئمت التهرب من الإجابة عليه حتى أصبح يقض مضجعك، فلم تعد تتذوق طعم الحياة ولم تعد ترى ألوانها، أصبح السواد يسيطر على كل شيء، ابتسامتك، ضحكتك، كلماتك لم يعد لها معنى، حتى مشاعرك لم تعد تميزها، إنه إحساس رهيب، إحساس التائه في الصحراء القاحلة بلا ماء ولا زاد ولا بوصلة.

حين تضيع منك الإجابة عن سؤال ” ماذا أريد؟”  يضيع مفتاح السعادة والتذوق والراحة. تتحول حياتك إلى مسرحية تراجيدية كلما حاولت الهروب من متابعتها تجد أحداثها تتكرر أمامك، حالة نفسية رهيبة تعيشها وأنت تائه.

الضياع فتنة حقيقية تسير بصاحبها نحو الهلاك فهو عرضة إما للغرق في أحضان المتع والملذات ظنا منه أنه بذلك يحقق السعادة أو للارتماء في موجة من الاكتئاب. ففي كل الأحوال أنت على وشك الغرق فالسفينة أضحت تنزل إلى القاع وأنت لا تجيد السباحة.

“وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا”{سورة هود : الآية 37}، فيقوم سيدنا نوح للعمل ويبدأ بصنع السفينة، لأن الرؤية بالنسبة له واضحة (بأعيننا) والهدف جلي فهو يرى إلى أين يتجه وماذا يريد. انهمك سيدنا نوح عليه السلام في العمل غير آبه بما يقوله الآخرون “وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ” {سورة هود : الآية 38}، يسخرون منه لأنه يرى ما لا يرون، لأن مجال الرؤية لديه واسع ومجالهم ضيق. يسخرون منه لأنه يقوم بعمل مختلف، غير مألوف، يصنع سفينة في أرض لا ماء فيها فهو بالنسبة لهم مجنون. إنه جنون العقلاء، الذين يعرفون الطريق، انهمك عليه السلام بالعمل وصم أذنيه عن كل ما يقال، لأنه بكل بساطة يعرف ما يريد. لأنه يرى الأمور بعيون مختلفة. 

“قَالَ اجْعَلْنِي على خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ” {سورة يوسف :الآية 55} ثقة كبيرة تلك التي يتحدث بها سيدنا يوسف عليه السلام. يتكلم بثقة لأنه يعرف ما يريد، لم يتردد في الطلب ولم يتوقف لحظات للتفكير ولم يطلب مهلة ليقرر ما يفعل. الرؤية واضحة والطريق ممهد فلم التردد “قال اجعلني على خزائن الأرض”، رؤية ثاقبة ليست نابعة من فراغ فهو أدرى الناس بنفسه وبقدراته ( إني حفيظ عليم). لقد جمع الحسنيين الخلق والعلم وكيف للملك أن يرفض رجلا بكل هذه المؤهلات.

سحرة فرعون تحدوا موسى عليه السلام بسحرهم ولكن حين اتضحت لهم الرؤية وتبين لهم الطريق رفضوا الاستمرار على ما هم عليه من الضلال. أزيلت الغشاوة عن أبصارهم فكان الإيمان “قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. رَبِّ موسى وَهَارُونَ”{سورة الأعراف : الآية 121و122}، ورغم وعيد فرعون لهم بالعذاب (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) {سورة الشعراء : الآية 49}

لم يثنهم تهديده عن المضي قدما في قرارهم لأن الرؤية واضحة والهدف بين “قَالُوا لَن  نُّؤْثِرَكَ على مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هذه الْحَيَاةَ الدُّنْيَا”{سورة طه : الآية 72}، هدفهم أضحى أمام أعينهم فلم يترددوا لحظة في الاختيار رغم العذاب “وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فأولئك لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جنات عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وذلك جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ” {سورة طه: الآيات 75-76}، إنها الجنة، أصبحت تتراءى لهم، واضحة أمام أعينهم فكانت التضحية كبيرة، لكنها في نظرهم هينة لأنهم عرفوا الطريق وما عاد التيه يعرف سبيلا إليهم ( إنما تقضي هذه الحياة الدنيا).

وأسكن الله آدم وزوجه الجنة “وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ” {الأعراف: الآية 19} ووعده ربه “إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تعرى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحىط {طه: الآية 118 و119} فكان كل شيء يسير كما يحب آدم عليه السلام، قمة السعادة والاطمئنان في جنة عرضها السماوات والأرض. أهداه ربه وأنعم عليه بكل شيء، ففي جنته لا جوع ولا عطش ولا عري، ولكن يتغير كل شيء في لمح البصر حين يفقد البوصلة وتغشى عيناه غشاوة تحجب عنه الرؤية فيقع في الفخ لأنه تعرى من رؤيته، تعرى من قيمه، تعرى من مبادئه ، تعرى من ثقته في ربه “فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى .فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى” {طه: 124-125-126}أصابه الجوع، جوع نفسه التي لم تقدر ما بين يديها من نعم وسمحت للشيطان أن يؤثر فيها  حتى أضحت ترى الوهم حقيقة.

فهوى آدم وسقط لأنه شك في كلام ربه “وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا انْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ” {الأعراف:الآية 20}، وثق آدم بكلام إبليس، فهوى من السماء إلى الأرض لأنه تاه وما عاد يعرف ما يريد حقا. ضاع فزاغ بصره، وصدق وسوسة إبليس رغم معرفته بأنه عدوه “فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى” {طه:117} ، كان يعرف أن خروجه من الجنة يعني الشقاء والمعاناة ويعرف أن من يحاول إغواءه هو عدوه الأول ولكنه استسلم له لأنه نسي بوصلته.

التيه فتنة عظيمة يفقدك توازنك ويضيع بوصلتك، والحل في العودة إلى كتاب الله فبين ثناياه تجد الإجابة التي تبحث عنها. فهو الكتاب الوحيد الذي يشرح نفسك أمامك ويطلعك على خباياها، إنه الكتاب المعجز الذي كلما أضعت الطريق أعادك إليها طائعا مسلما بإعجازه وبيانه وعلاجه لأحوال الخلق (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ) {الكهف:الآية54}. كتاب الله يجعلك تبصر بنور الله ” فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى” {طه : الآية 123} فيقيك الشقاء وأنت الباحث عن السعادة، وفي المقابل من ابتعد عنه “وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى” {طه : الآية 124-125-126} يخسر كل شئ بل يضيع أهم شئ: نور البصر والبصيرة.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى