الدفع بالأسباب للفرار من قدر الله إلى قدر الله

حث الله الله تعالى في كتابه العزيز على الأخذ بالأسباب حيث صور سبحانه أبهى تجليات ذلك في صورة مريم وقوله تعالى “وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا”  (سورة مريم الآية 25). فهز النخل يتطلب قوة عدة رجال فكيف ذلك ومريم العذراء وهي في مرحلة الوضع نفساء وتكون أضعف ما يكون؟

فهذه الصورة القرآنية من قصة مريم العذراء إشارة لطيفة إلى ضرورة الأخذ بالأسباب، وأن العبد إذا قصر عن الأخذ بها حرم من ثمرتها، وأن الإيمان بالقدر لا يعارض الأخذ بالأسباب المشروعة مهما صعبت.

ولهذا يذهب ابن القيم إلى أن “الدين هو إثبات الأسباب والوقوف معها والنظر إليها، وأنه لا دين إلا بذلك كما لا حقيقة له إلا به، فالحقيقة والشريعة مبناهما على إثباتها (أي الأسباب) لا على محوها، ولا ننكر الوقوف معها، فإن الوقوف معها فرض على كل مسلم، لا يتم إسلامه وإيمانه إلا بذلك (الإيمان)، وبالأسباب عرف الله وبها عبد الله، وبها أطيع الله وبها تقرب إليه المتقربون، وبه نال أولياؤه رضاه، وجواره في جنته، وبها نصر حزبه ودينه، وأقاموا دعوته، وبها أرسل رسله وشرع شرائعه، وبها انقسم الناس إلى سعيد وشقي، ومهتد وغوي، فالوقوف معها، والالتفاف عليها، والنظر إليها، هو الواجب شرعا، كما هو الواقع قدرا”.

وقد وردت عدد من الآيات في القرآن الكريم تفيد أن قدر الله حق وقدر الله نافذ، ولكنه ينفذ من خلال السنن التي أقام الله عليها نظام الكون، من خلال الأسباب التي خلقها سبحانه وشرعها، وليستقيم عليها أمر الوجود، ونظام التكليف، فهذه السنن والأسباب جزء لا يتجزأ من قدر الله الشامل المحيط.

نستعرض هنا عدد من هذه الآيات بداية من قوله تعالى: “وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ” (الأنفال: 60).

وقوله سبحانه: “وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا *حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا” (الكهف: 83 ـ 98).

وفي وجوب الدفع بالأسباب في الفرار من قدر الله إلى قدر الله وردت عدد من الأحاديث والنبوية وآثار الصحابة والتابعين، فعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خرج إلى الشام حتى إذا كان بِسَرْغٍ، لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، قال ابن عباس فقال لي عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعوتهم، فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا، فقال: بعضهم خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رَسُول اللَّهِ ﷺ ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء. فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم، فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف عليه منهم رجلان؛ فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أفراراً من قدر اللَّه! فقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! وكان عمر يكره خلافه؛ نعم نفر من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه؛ أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر اللَّه، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر اللَّه قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وكان متغيباً في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علماً: سمعت رَسُول اللَّهِ ﷺ يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه) فحمد اللَّه تعالى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وانصرف. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وعن أسامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي ﷺ قال: (إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الإصلاح

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى