الاجتهاد المصلحي.. ووباء كورونا – عثمان كضوار

يعتبر الاجتهاد من أعظم الأبواب التي تكلم فيها الأصوليون والفقهاء على مر الأزمنة ، وقد اختلفت منهجيتهم في التحليل بين من يختصر الحديث عنه بذكر تعريفه وأركانه ومجالاته وتصنيفاته ، حتى إننا أصبحنا ندرك ابتداء ما يود المؤلف  الحديث عنه من خلال ما يورده من عناوين تكاد تكون نسخة لما سبق من كتابات في الموضوع نفسه ، وبين من اجتهد تفصيلافي الموضوع وبحثا في الجزئيات ، والتي تترجم استفراغهم للجهد بقدر ما يحمله مفهوم الاجتهاد لغة واصطلاحا.

وقد استوقفني هذا الموضوع وأنا أقرأ كتاب ” أبحاث في الميدان ” للدكتور أحمد الريسوني ، حيث يشير في أحد أبواب الكتاب ” الاجتهاد المصلحي : مشروعيته ومنهجه ” أهمية هذا النوع من الاجتهاد في رفع الغشاوة عن المجتهد ، وإدراكه لقصد الشارع من زاوية جلب المصلحة ودرء المفسدة ، ولا ننكر أن الموضوع قد تحدثه عنه الأولون ، غير أن لغة الرجل بيانا وتوضيحا ، أضفت على الموضوع خاصية التجديد والتجدد من خلال مقارباته العلمية للموضوع ، وهي إحدى الخائص المميزة لمؤلفاته حفظه الله .

وقبل تفصيله في الموضوع ،نبه إلى مسألة غاية في الأهمية يغفل عنها كثير من المنتسبين إلى الحقل الاجتهادي من الأصوليين والفقهاء ، ويتعلق الأمر بقاعدة ” لا اجتهاد مع وجود النص ” ، فالأمر هنا كما يبين فضيلته لا ينفي الاجتهاد حالة وجود النص ، إلا إذا كان النص صريحا لا يقبل تأويلا  فيقول :” ولكني أضيف أن الاجتهاد قد يكون في ما ليس فيه نص يخصه ، وهذا معلوم واضح ، وقد يكون في ما فيه نص ، فيقع الاجتهاد في تفسير النص وتحديد مناطه وفي تعليلهوتنزيله… ومعنى هذا أن قاعدة ” لااجتهادمعوجود ” لا تمنع الاجتهاد الذي يتطلبهالنص، وما يعتريه ذلك الفهم من غموض أو استشكال أو تعارض ، كما أنها من باب أولى لا تمنع الاجتهاد في استخراج علل النصوص ومقاصدها ومناطها ، مع ما قد يترتب على ذلك من تقييد أو تخصيص ، أو تعدية وتوسيع لمدلول النص ، وهذا فضلا عن الاجتهاد في الصور والإشكالات التطبيقية للنص ” ص 74 – أبحاث في الميدان .

إن ما نبه إليه الريسوني من خلال هذا التوضيح يفرز لنا ميدانيا صنفين من المجتهدين ، صنف عمد إلى تطبيق القاعدة سالفة الذكر من منطلق التحفظ في التعامل مع النصوص بدعوى لا اجتهاد مع وجودها ، فنتج عن ذلك تجميد دائرة الاجتهاد ، حتى بات التقليد صورة طاغية على جل أبوابه ، بل كرس الوضع صنفا أحدث بدعا في الفتوى لا نجد لها تفسيرا إلا  من زاوية الافتقار إلى أدوات الاجتهاد المقاصدي ، وأذكر هنا ما تلقيته عنه أحد أساتذتنا الأفاضل الدكتور أحمد الضاوي البزوي كلاما نفيسا في مجال الاجتهاد المقاصدي ، مفاده أن هذا النوع من الاجتهاد ” الاجتهاد المقاصدي”هو أرحب من حيث استيعاب القضايا والنوازل المستجدة ، فدائرته أو سع من غيره ، وأن الأمة الإسلامية في أمس الحاجة إلى هذا اللون من الاجتهاد ، في زمن ضاقت فيه الرؤية الاجتهادية ، حتى صارت الساحة العلمية مليئة بما يفسد عقيدة وشريعة المسلمين تحت مسمى الاجتهاد.

وبالعودة إلى الريسوني يبين أن ا الاجتهاد  الموصوف بالمصلحي  هو الذي لا ينفك عن تتبع المصلحة التي يبنى عليها الاجتهاد  ويراعيه ” فمتى دخل في استنباط الحكم وتقريره اعتبار المصلحة ، وكانت إحدى مقدماته الاستدلالية ، فذلك مما أعنيه بالاجتهاد المصلحي ” ص 75.

وأما المصلحة التي يعنيها الريسوني والتي ذكرها غيره ” العز بن عبد السلام ، ابن القيم ، الشاطبي ، ابن عاشور ، فتلك المصلحة المعتبرة  بأدلة الشرع  والتي تختلف درجاتها بين الوجوب والندب والإباحة .

ومن المصلحة كذلك اعتبار درجة المفسدة فدفعها عند التعارض مع المصلحة هو عين المصلحة ، ويعتبر هذا النوع من الترجيع بابا دقيقا من أبواب الاجتهاد المصلحي ، باب لا يلوجه إلا الراسخون في العلم ، ولا يجرؤ على الخوض فيه إلا من فقه بكل عناية درجات المصالح ودرجات المفاسد ، فكم من مصلحة أفسدت على الأمة الإسلامية أولوياتها ، وأذكر في هذا السياق أن بلدنا المغرب ، بات يمثل النموذج  المثال في التعامل مع النوازل والقضايا بفضل الفئة العلمية الرائدة التي يزخر بها بلادنا ، والتي تنم عن سعة علمها حيث حضور الفكر المقاصدي في استحضار النصوص وحسن توظيفها ، ومن هؤلاء الشيخ الأفاضل  الدكاترة : مصطفى بنحمزة ، أحمد الريسوني ، محمد الروكي ، ولأدل على ذلك طريقة قراءتهم تدابير الدولة في التعامل مع جائحة كورونا ، وتفاعلهم الإيجابي مع تلكم الخطوات الوقائية ، والتي تجعل من قاعدة درء المفسدة أولى من أي اعتبار آخر ، وفي ذلك مصلحة للعباد والبلاد .

فيذكر الريسوني حفظه الله ” ومما يدخل في معنى المصلحة درء المفسدة ، باعتبار أن درء المفسدة من المصلحة ، وأن ترك المصلحة مفسدة ، فكل اجتهاد روعي فيه درء مفسدة ومضرة حتى لا تقع، أو درئها إذا وقعت ، أو تقليل وقوعها ، أو تقليل بقائها ، فهو مما أعنيه بالاجتهاد المصلحي ” ص 75.

إن العالم بأسره اللحظة يمر بوضع غاية في الحرج دفع بالبعض من حيث لا ينتبه ، تطبيق هذا النوع من الاجتهاد  ” الاجتهاد المصلحي” ، وهو دليل  على يحتويه فقهنا الإسلامي  من آليات أصولية ، تجعلنا نفتخر بما نحتويه من أدوات علاجية وفقه المنهج الرباني ، حيث يدور الحكم مع دواران العلة وجودا وعدما .

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى