هيرات تكتب: الصحة وسياسة تدبير الأزمات
قبل أيام قلائل كتبت تدوينة على حسابي الشخصي بالفايسبوك، حول مواطنة مغربية تدعى “مي فاطنة” تجاوز عمرها 110 سنة، هذه السيدة حظيت برعاية ومتابعة طبية خاصة تماثلت على إثرها بالشفاء من فيروس كورونا المستجد بعد 22 يوما من الاستشفاء، كنت في قمة الفرح والرضى بهذا النموذج الذي اعتبرته مشرفا لوطن يقدر الروح والإنسانية؛ كما كنت فخورة بالتعامل الإنساني الذي حظيت به هذه المرأة المسنة على عكس الكثير من الدول التي اعتبرت هذه الفئة العمرية غير نافعة في مقابل مواطنين نشطاء وجب رعايتهم لأنهم أكثر نفعا وعطاء.
وأنا في قمة نشوة الإحساس صدمت بتعليق توصلت به من إحدى المتابعات، بخصوص والدها، الذي لم يتعدى الستين سنة، والذي توفي نتيجة الإهمال الطبي وعدم الاكتراث في المستعجلات لكون الأطر الطبية كانوا مشغولون مع مرضى كورونا وحالته لم تكن ضمن أولوياتهم، واسترسلت بأن جل المغاربة يعرفون النقص المهول الذي يعيشه قطاع الصحة لا سيما العمومي وأن الإعلام له دور في إخفاء الجانب المظلم داخل المستشفيات العمومية… كانت هذه التدوينة بمثابة صفعة للاستيقاظ من “حلم جميل” أو بالأحرى تطلع للقطع مع ماضي فشل تدبير قطاع حيوي وهو قطاع الصحة، وأن فترة الأزمات قد تكون بداية مرحلة جديدة.
بعدها بوقت وجيز اطلعت على مسح جديد قامت به منظمة الصحة العالمية، شمل 155 دولة على مدار ثلاثة أسابيع خلال شهر ماي، اعتبر هذا المسح أن مرض كوفيد-19 تسبب بالتعطيل الكامل أو الجزئي للخدمات الصحية لما يسمى بالأمراض غير السارية مثل السرطان والقلب والسكري في أكثر من نصف تلك الدول.
هذه الدراسة التي أصدرتها منظمة الصحة العالمية في الأول من الشهر الجاري، كشف أن أكثر من نصف الدول التي شملها المسح (53%) عطّلت خدمات علاج ارتفاع ضغط الدم إما بشكل كامل أو جزئي، و49% من علاج مرض السكري ومضاعفات مرض السكري، و42% من خدمات علاج السرطان، و31% من الخدمات المرتبطة بعلاج حالات الطوارئ الناجمة عن أمراض القلب والأوعية الدموية. كما أوضحت المنظمة أن القلق يتزايد لأن الفئة المذكورة أعلاه تعد أكثر عرضة من غيرها للإضافة بهذا الوباء وبالتالي الوفاة في حالتهم هي الاحتمال الأكثر ترجيحا.
فإذا قمنا بحساب رقمي بسيط، فلغاية كتابة هذه الأسطر، تجاوز عدد المصابين بهذا الفيروس ال6 ملايين في مختلف أنحاء العالم، في حين أن الأمراض الأخرى كأمراض القلب والسكتة الدماغية والسرطان والسكري وأمراض الرئة المزمنة، دائما حسب منظمة الصحة العالمية، تقتل سنويا سبعة من بين كل عشرة مرضى، أي 41 مليون شخص عالميا. وكل سنة، يموت 15 مليون شخص بين عمر 30 و69 عاما بسبب هذه الأمراض، وأكثر من 85% من الوفيات “المبكرة” تحدث في الدول متدنية ومتوسطة الدخل، وبالتالي يمكن إسقاط هذه الأرقام والمؤشرات على وطننا الذي يعاني نقصا في الخدمات والتشخيصات والتجهيزات والتكنولوجيا كلما ولجنا للخدمات العمومية التي يستفيد منها المواطنين ذوي الدخل المحدود.
ففي التفاعل مع فيروس كورونا، نجح المغرب باتخاذه خطوات مهمة في طريقة تدبيره ومواجهته كأزمة مستجدة لم يعشها البلد منذ سنوات طويلة جدا، حيث تم القيام بعمل جبار في احتواء الوباء والتحكم فيه ولو بشكل نسبي، وكذلك من خلال تجهيز مستشفيات ميدانية في وقت خيالي، واقتناء وتجهيز بل ودعم اختراع وابتكار أجهزة لوجيستيكية تفتقدها اليوم الدول التي كانت مصنفة إلى حد قريب ضمن الدول المتقدمة والمتوفرة على التكنولوجيات العالية.
كما أن الكل يعلم اليوم أن جميع الدول تبحث في سبل التعايش مع فيروس كورونا، بل وتحاول وضع خطط لذلك وفق مقاربات علمية ولوجستيكية وإدارية وسياسية كذلك. والمغرب لا ينبغي أن يكون الاستثناء في وضع الخطط والبدائل، لذا فأولى هذه الخطوات يجب أن تتم من خلال الحفاظ على هذه المكتسبات وتطويرها، والعمل على إدماج خدمات باقي الأمراض كأمراض القلب والسكتة الدماغية والسرطان والسكري وأمراض الرئة المزمنة، وأضيف لها الأمراض النفسية، ضمن استعدادتها لمواجهة الوباء وخطط الاستجابة له، فكلها خطيرة وكلها تهدد البشرية، غير أن الفرق أنها عاشت معنا زمنا طويلا حتى ظننا أنها أمراض ميؤوس العلاج منها، وبالتالي ميؤوس الولوج لمراكز ومؤسسات الاستشفاء منها. ليس فقط بالنظر لخطورتها وإصابة فئات عريضة بها، بل كذلك لأن المصابين بها هم أكثر عرضة للإصابة بالوباء.
وجب على الدولة كذلك تشجيع التطبيب “عن بعد” خلال هذه الفترة، وتجنيد أقطم طبية يشترط فيها مستوى عالي من الإنسانية والإحساس بقيمة إنقاذ أرواح الناس، قبل الكفاءة العلمية والمهنية، وتعبئة الفعاليات المدنية لدعمها على الأقل في الجانب المتعلق بالتحسيس والتعبئة وإيصال المعلومة لعموم المواطنين، لأننا في النهاية نتعامل مع فئات هشة وتعليم متوسط إلى ضعيف. وبهذا الإجراء سيتم تفادي الكثير من الإشكالات المرتبطة بتنقل المرضى على المستويين الإنساني واللوجستيكي.
فلم يعد مقبولا -بعد محاصرة الداء-، وفي مغرب يعمل على تحقيق العدالة المجالية، اللجوء لمستشفيات مركزية وجهوية، فقط لأنها تتوفر على تجهيزات (الراديو والسكانير وغيرها…)، في حين تفتقد باقي المؤسسات الاستشفائية لأدوية عادية تستعمل بشكل يومي، وما يسببه ذلك من بطء في الاشتغال والاكتظاظ الذي يحبط المرضى بل ويزيد من معاناتهم.
لم يعد مقبولا، في مغرب ينشد العدالة الاجتماعية ويصبو لتحقيق المساواة وتكافؤ الفرص وإقرار حقوق الإنسان، التعامل الفوقي لبعض الممرضين والأطباء الذين يلجؤون إلى ابتزاز المرضى واستفزازهم كأن أرواحهم معلقة بهم.
لم يعد مقبولا أن نحاصر فيروسا حير العلماء بإمكانات هائلة وضخمة، ونهمل أمراضا مصابوها يستعصى إحصاءهم، علاجها متوفر، ولا تتطلب سوى شيئا من العناية والتنظيم وترتيب الأولويات. حتى نخرج منتصرين خلال هذه الفترة، ليس فقط على الوباء، بل على أنفسنا وعلى قيم الجهل وسوء التدبير والمعاناة.
دة. فاطمة الزهراء هيرات
باحثة في القانون العام والعلوم السياسية