نور الدين الهادي يكتب: حرب غزة.. مخلفات ونتائج

دامت حرب الإبادة الجماعية على غزة سنتين كاملتين (أكتوبر 2023/ أكتوبر2025)، وتوقفت لكن لم تنته بعد، وسال مداد كثير حولها، لكنها أسالت دماء غزيرة، دماء الأطفال الخدج، والشباب البريء، والنساء الحوامل، والشيوخ الضعفاء، ما أشد على النفس أن نتابع ونصف ما جرى لأهل غزة خلال سنتين متتاليتين من حرب الإبادة الجماعية على القطاع الجريح، إبادة تعتبر الأكثر فظاعة بسبب الممارسات الهمجية السادية للجيش الصهيوني في حق المدنيين.
وخلفت مليونين من السكان بدون مأوى، وقام جيش بني صهيون خلالها بإلقاء 125000 طن من المتفجرات، نتج عنها استشهاد أكثر من 70000 من فلسطينيي غزة، عشرون بالمائة منهم نساء، وثلثهم دون الثامنة عشرة، ونصفهم رجال، وما يزال أكثر من 10000 في عداد المفقودين، إما معتقلين عند قوات الاحتلال أو شهداء تحت الركام، وأكثر من 171000 من الجرحى منهم 18000 جريح يحتاجون إلى تأهيل بسبب عاهات مختلفة، وحوالي 6000 أسرة أبيدت بالكامل وتبقى منها ناج وحيد، و 1700 شهيد من الأطر الطبية، مع ما يتركه هذا الكم من الضحايا من ندوب في نفوس من كتبت لهم النجاة من المحرقة الصهيونية فقد أكثر من عزيز عليهم، كذلك دمرت آلة الحرب الإسرائيلية 90 بالمائة من المباني بالقطاع، إضافة إلى المساجد والمستشفيات والمدارس والجامعات والمناطق الصناعية والتجارية والمباني الحكومية، وقامت القوات الصهيونية الغازية بتجريف الأراضي الزراعية والآبار مما نتج عنه تدمير كل الثروة الزراعية والحيوانية، الشيء الذي سيكون له أثار بليغة على التغذية في القطاع خلال السنوات القادمة، مما يشكل كلفة إجمالية تقدر بأكثر من 70 مليار دولار تمثل تكاليف إعادة إعمار قطاع غزة.
أما الركام الذي خلفته هذه الحرب الهمجية فتلك قصة أخرى مروعة، يصعب استيعابها، ويجعل المأساة غير المسبوقة لا تتوقف بتوقف الحرب بل تمتد لعقود، فقد خلف الدمار في غزة حوالي 65 مليون طن من الركام يلزمه 21 عاما كاملة العمل لإزاحته، و لتقريب صورة هذا الدمار للأذهان، فإن ركام غزة يُمَكن من بناء سور الصين العظيم الذي يمتد مسافة 21000 كيلومتر، كذلك يُمكن هذا الركام من بناء مدينة داخل البحر تمتد ل 25 كيلومتر مربع، ويشكل معضلة وتحديا لوجيستيا حتى مع توفر المال اللازم والمعدات، فضلا عن التحديات التي يطرحها هذا الركام، من قبيل القنابل والمقذوفات التي لم تنفجر بعد، وما تزال مركومة لا يعلم أحد مكانها، مما يشكل خطرا كبيرا على الفرق التي ستقوم لاحقا بعمليات الإزاحة والتخلص من هذه المخلفات، كذلك يطرح هذا الركام عائقا حقيقيا أمام عملية إعادة الإعمار، ويحولها إلى أكبر تحد تواجهه البشرية في العصر الحديث، بالنظر للمساحة الصغيرة لقطاع غزة التي تعرف بتكدس سكاني هو الأعلى في العالم.
لم تكن حرب غزة نتاج هجوم السابع من أكتوبر 2023، إذ لم يكن إلا هجوما استباقيا لهجوم آخر كان يخطط له الكيان الصهيوني، ليكون خاتمة تنهي الوجود الفلسطيني إلى الأبد، فبعد عمليات التطبيع مع الأنظمة العربية التي وصلت مراحلها الأخيرة، كان ضروريا إنهاء جميع المظاهر المناهضة للتطبيع، والقضاء على جميع القوى المسلحة سواء في القطاع والضفة أو في المنطقة المجاورة لفلسطين ولكل داعمي الحق الفلسطيني، تمهيدا لمرور الصهاينة إلى المرحلة الجديدة من توسيع دولة بني صهيون وتمددها في المنطقة العربية لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى، في إطار الهيمنة الإسرائيلية غير المسبوقة في المنطقة، ساعدها في ذلك ما روجه بنو صهيون عبر عقود، وبضغط وتوجيه أمريكيين على العرب، أنه من الضروري تحقيق تكامل بين الكم العربي والنوع الإسرائيلي، على اعتبار “وحدة العقيدة الإبراهيمية” التي تجمع الجميع، وما ذلك إلا افتراء ما أنزل الله به من سلطان.
وبعدما تحولت الحرب من حرب جوية بالصواريخ والطائرات والقنابل التي أحدثت دمارا واسعا بالقطاع وشهداء وجرحى يعدون بالآلاف، كان من الضروري دخول القوات البرية للقضاء على الفصائل المقاومة وحسم المعركة، لكن أنفاق المقاومة لعبت دورا محوريا في حرب السنتين، واعتبرت سلاحا استراتيجيا كان له دور حاسم في استمرار المقاومة وعدم تصفيتها، وبالتالي الوقوف في وجه الاستكبار العالمي الذي كان قد حسم أمره بتهجير الفلسطينيين خارج قطاع غزة لبناء رفييرا الشرق الأوسط حسب توصيف الرئيس الأمريكي.
وقد مكنت هذه الأنفاق المقاومة من تحقيق توازن قتالي بين التفوق الجوي الإسرائيلي بما يملكه هو وحلفاؤه من رصد استخباراتي عبر الأقمار الاصطناعية والطائرات المسيرة التي ترصد دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في كل المساحة الضيقة للقطاع، والتفوق الجوفي للمقاومة التي تتخفى في دهاليز “متاهات” الأنفاق، تلك الأنفاق التي تنوعت حسب طبيعة الاستعمال؛ إما أنفاق أرنبية قصيرة محدودة المجال، لأهداف هجومية أو دفاعية يمكن التخلي عنها، وأنفاق عنكبوتية أعدت لمهام القيادة والسيطرة واللوجيستيك والاختفاء السري و الاحتفاظ بالأسرى الإسرائيليين، وإخفاء أنشطة المقاومة سواء عن أعين التجسس الجوي أو تجسس بعض العملاء المنبتين وسط السكان.
ورغم الظروف الاستثنائية وصعوبة العيش في الأنفاق بسبب قلة الطعام وضعف الإنارة بل انعدامها، والبعد عن الأسر، لكن الفصائل آمنت أن المقاومة هي خيار استراتيجي وحيد، واستندت على مخزون إيديولوجي متكون من ثلاثة أبعاد مركزية في هذا الصراع؛ بُعد الروح العقائدية وبُعد الإرادة وبُعد الإدارة، مما شكل قدرتها على إبداع وسائل قتالية جديدة متجددة يفاجئ بها العدو، وأنساق قتالية دفاعية وهجومية غير تقليدية وغير مألوفة في العلوم العسكرية، كذلك استعملت المقاومة بفعالية البيئة المدمرة للنيل من قوات العدو وآلياته بعد الرصد وإنجاز العمليات النوعية البطولية .
كان لهذه الأنفاق دور مفصلي في النيل من جميع آليات العدو التي كان يتباهى بها في العالم ويعدها مفخرة الصناعة الإسرائيلية، وشكلت الأنفاق عمقا استراتيجيا لدحر القوات الصهيونية وإصابتها بحالة من استنزاف القوات والعتاد، عبر الخروج من الأنفاق واستهداف دبابات الميركافا الباهظة الثمن وعربات النمر والجرافات المدرعة من المسافة صفر عوض القصف البعيد الذي يمكن استشعاره بأجهزة التحسس التي يوفرها نظام تروفي الذي تنشئ قبة إلكترونية حول هذه الآليات، وهكذا كانت عناصر المقاومة الباسلة وفق تكتيك عسكري مبدع تخرج من الأنفاق لوضع أو إلقاء العبوات الناسفة على الآليات الإسرائيلية، كذلك تقوم باصطيادها بقذائف الياسين من مسافات قريبة جدا، وقد وفرت الهندسة العسكرية الراجعة مخزونا كبيرا من القنابل الإسرائيلية التي لم تنفجر لاستغلالها في صنع متفجرات لضرب العدو، كتبت عليها عبارة: هذه بضاعتكم رُدت إليكم.
وقد نتج عن هذا الأسلوب التكتيكي العسكري للمقاومة إبادة مروعة لجميع أنواع الآليات العسكرية الصهيونية، إضافة إلى عدد كبير من القتلى والجرحى في صفوف الضباط والجنود الإسرائيليين الذين كانوا يصابون بالهلع والهروب إلى منازل مجاورة تكون مفخخة سلفا فيتم القضاء عليهم، مما أصابهم باستنزاف وارتباك كبيرين، وأدت ضربات المقاومة المتلاحقة إلى تدمير ثلث ما يمتلك الكيان من آليات، اضطر معه إلى إدخال آليات قديمة لا تفي بالمطلوب في هذه الحرب أمام فدائيين شرسين، كذلك اضطر الجيش الإسرائيلي إلى سحب ألوية متميزة بتدريبها “الرفيع” وقدرتها القتالية “العالية” من مسرح العمليات بسبب ما أصابها من خسائر فادحة تمنع استمرارها في المعارك، إذ خسر لواء جولاني أكثر من ثلث قواته.
وشكلت هذه الحرب كلفة عسكرية جد مرتفعة في صفوف الجيش حيث أصيب أكثر من 20000 جندي، كل ذلك دون تحقيق هدف القضاء المبرم على رجال المقاومة، ونتج عنه انسداد أفق الحرب التي لم يعد لها أي نتائج سوى المزيد من تقتيل المدنيين العزل، والمزيد من الاستنكار الدولي المتعاظم، وإلى جانب خسائر إسرائيل العسكرية غير المسبوقة منذ تاريخ قيام الكيان، فقد تكبد بنو صهيون خسائر اقتصادية تقدر بنحو 400 مليار دولار من النشاط الاقتصادي المفقود على مدى العقد القادم مما يهدد بوضعية اقتصادية كارثية، إذا أضفنا عشرات المليارات من الدولارات لسداد الديون المتراكمة.
صحيح أن الشعب الفلسطيني ومقاومته قدموا تضحيات كبيرة خلال حرب فرضت عليهم، لكن صمودهم الاستثنائي وقف سدا منيعا أمام طموح بني صهيون وحلفائهم الأمريكيين، إذ سقط المشروع الصهيوأمريكي القاضي بالتهجير الجماعي من القطاع، وسقط هدف القضاء على المقاومة واجتثاثها وضرب مقدراتها وحاضنتها الشعبية، لأن المقاومة هي الشعب والشعب هو المقاومة، لم ينتصر جيش بنو صهيون لأن المقاومة لم تنهزم وترفع الراية البيضاء، ومازالت حاضرة بسلاحها وفدائييها، تحرس المواطنين وتنظم الأمن وتحمل بكل شجاعة ونكران ذات أمانة الدفاع عن الوطن، ومهما كان من محاولات يائسة لخلق مليشيات عميلة للكيان، فمآلها الفشل الذريع، ولقد كانت النهاية البئيسة لرجل الصهاينة بالقطاع ياسر أبو شباب وقائد مليشيات الضرار، رسالة استراتيجية لكل من يفكر في السير على نهج الخيانة والاسترزاق وخدمة أجندات العدو الصهيوني، وجميع محاولات طمس الحق الفلسطيني على وطنه لن يكتب لها النجاح أمام صمود شعب الجبارين.




