نور الدين قربال يكتب: الفتوى الشرعية من منظور إمارة المؤمنين
انعقد بمراكش لقاء علمي من 8 إلى 10 يوليوز لمؤسسة العلماء الأفارقة لمناقشة موضوع” ضوابط الفتوى الشرعية في السياق الإفريقي”. وبالمناسبة وجه أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله رسالة إلى المشاركين، تعتبر خريطة الطريق لمنهج التعامل مع ضوابط الفتوى الشرعية، عامة وفي السياق الإفريقي خاصة، فما هي مضامين الرسالة الملكية السامية؟
تشكل الفتوى موضوعا له مكانة جوهرية وعميقة في مقتضيات إمارة المؤمنين، نظرا لارتباطها الوطيد بأحكام الشريعة في علاقتها بالنوازل المستجدة. فهي أمانة في حماية الدين وتكليف رباني من أجل مواجهة التطرف والانغلاق وأسباب الفتنة.
من أجل القيام بهذه المهمة الحضارية، دعا جلالة الملك إلى مأسسة جهود علماء المسلمين، انطلاقا من قيم المنظومة الاسلامية الداعية إلى الوسطية والاعتدال، والاجتهاد في إصلاح تتوقف عليه عملية التنمية بإفريقيا وطنياوقاريا. واستيعاب التراث الغني، والروابط المتعددة الأبعاد بين المغرب وبلدان إفريقيا جنوب الصحراء، والتشبت بالثوابت عقديا ومذهبيا بناء على الاعتدال السني. واستحضار السلوك الصوفي، الذي يشكل مع العلم الشرعي وجهين لعملة واحدة.
اعتمادا على هذا التأطير الشرعي والاجتهادي والسلوكي، يحضر التاريخ المشترك، والترقي في مأسسة التواصل بين العلماء والفقهاء والمفتين. فهذا أمر ملح في مناخ التطورات التي يعرفها العالم والتحديات المستجدة حضاريا واجتماعيا. كل هذا مساعد في عقلنة الفتوى وجعلها تعتمد العلمية والمهنية. وترشيد التنزيل الملائم لروح العصر.
إن هذا التأطير الملكي لضبط ضوابط الفتوى، يجعل مهمة العلماء مسؤولية عظمى أمام الله وأمام الناس، خاصة في هذه الظروف العصيبة. لأن الناس لهم رؤية مقدرة للعلماء. فهم المرجعية الوثقى في تبليغ دين الله وحسن تنزيل مقاصده على أحوال الناس، مستشهدا جلالته بقوله عليه الصلاة والسلام”يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين تأويل الجاهلين”.
وهذا أمر معيش عند العلماء الخائضين في شؤون الدين، ولا يمكن تأثير العلماء في الناس إلا اعتمادا على مبدأ الوسطية والاعتدال. الذي يقاوم التطرف وتأويل الدين. ومن خصوصية المملكة المغربية بقيادة أمير المؤمنين، أنه تمت مأسسة الفتوى، وهي حصريا بيد المجلس العلمي الأعلى الذي يترأسه أمير المؤمنين. مع إعطاء فرصة للإرشاد في قضايا لا تدخل الفتوى فيه بالحياة العامة.
ومن أجل ترشيد الفتوى والتحكم في ضوابطها نصت الرسالة الملكية على مجموعة من التوجهات العامة نوجزها فيما يلي:
ضرورة الانطلاق من الآية الكريمة “وكذلك جعلناكم أمة وسطا”. ثم اعتماد مقتضيات متناسلة من المبدأ العام نحو الاعتدال والتعاون والتشاور، وإدماج المكونات الثقافية المحلية في دائرة المقبول الشرعي ما لم يناقض القطعيات مع إدماج الواقع المعيش، اعتمادا على القاعدة المأثورة “ما جرى به العمل”.
وهذا ما يتطلب تنمية المدارك، وتبادل الأنظار، وفقه الواقع مع توظيف البعد الرقمي خدمة لتعميم النفع والتكوين والتأهيل، والتعامل مع مجتمع التواصل في إطار التطور التكنولوجي الذي يضمن الاستمرارية في التداول، وتبادل التجارب وتشجيع الاجتهاد ومراعاة الخصوصية. مع الاستعانة بالخبرات من خارج الاختصاص في العلوم الشرعية.
كما دعا جلالته إلى عدم الجرأة على الفتوى من غير أهلها. والابتعاد على خطاب التكفير والكراهية والتطرف. مركزا جلالته على إشراك النساء العالمات، لأنهن شقائق الرجال في الأحكام. مستحضرا السيدة عائشة رضي الله عنها التي اخذ منها شطر مهم من الدين. واعتماد الإعلام في مهمة الإرشاد.
ووجه جلالته رسالة كريمة تدعو إلى التعاون والبر والتضامن ونشر السلم والأمن بين الدول، والعلة ان كل بلد لا يأمن إلا بقدر ما يكون البلد الجار آمنا. كما نرى الفتنة تعبر الحدود، كما تعبره الزوابع والرياح.
نتمنى أن تكون هذه الرسالة الملكية نبراسا قويا لضوابط فتوى شرعية مؤسساتية لا مجال فيها “للنزاعات المتطرفة وللأهواء الضالة المضلة” كما ورد في المنطوق الملكي.