نفس المؤمن بين تدافع السراء والضراء
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيد المرسلين وإمام المتقين والذي بعثه الله رحمة للعالمين فدلهم على هدايات ربهم ورسم لهم منهج استبصار سننه فلم يجدوا لها تبديلا ولا تحويلا :قال تعالى :{فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحوِيلاً}[فاطر:43]
أما بعد، فإن سنة التدافع سنة كونية، ماضية تسري بمشيئة الله عز وجل وبمقتضى حكمته في عالم الإنسان كما في عالم الحيوان والنبات،….هذا التدافع الغريزي الفطري الساري في الكون والذي تنخرط فيه كل ذرة ومجرة ، كل فرد وجماعة، إنما هو تصريف لسنن ونواميس وضعها الله فيهم، وقد أشار إلى هذا آيات قرآنية وأحاديث نبوية قال تعالى : “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ” البقرة 249.
وقد جاء عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء) ثم قرأ ابن عمر :”ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض “.الترغيب والترهيب
إن الجائحة التي تمر بها البشرية اليوم وما أحدثته في النفوس لتجعل المسلم يقف أمام مرآة ذاته، تجعله يستمع إلى صوته الداخلي، تحمله على تحسس خلجات نفسه وكشف سر التدافع في آفاقها، وهاهنا مظهر من مظاهر التدافع داخل الإنسان جلاه كتاب ربنا وسنة نبينا- تدافع السراء والضراء- ثم صورتان يتقلب فيهما الإنسان أيام عمره – مدافعة النوازع والحسنات والسيئات- وغاية استعراضها هي : أن يتبصر المسلم طريقه وهو يسير في هذه الدار الدنيا إلى نهايته المحتومة، أن يخرج منها ونفسه متحققة بالاطمئنان “يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ” الفجر (27-30)
أولا : التدافع بين السراء والضراء:
السراء: حسن الحال إما في النفس بعلم أو فضل أو عفة، إما في البدن بعافية وكمال، إما في الحال بكثرة مال أو جاه، أما الضراء فضد ذلك كله.
قال تعالى : “واستجبنا له فكشفنا ما به من ضر” الأنبياء 83، جاء في المحرر الوجيز للطبري : (فهذه الآية تخبرنا عن أيوب حين أصابه البلاء في بدنه وماله وأهله إلى أن كشف الله ما به برحمته وفضله ).
والإنسان وهو جزء من الحياة يتحرك كالحياة حركة دائمة مستمرة بدءا بالولادة والطفولة والشباب منتقلا إلى الرجولة والكهولة إلى الشيخوخة، وخلال هذه المراحل يتقلب مابين السراء والضراء مابين العافية والابتلاء، فمن سنن الله تعالى في عباده أن ينقلهم من حال إلى حال، قال تعالى في كتابه في سورة الرحمن الآية 27 “يسأله كل من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن “.
فهو سبحانه كل يوم في شأن خلقه فيفرج كرب مكروب، ويرفع قوما ويخفض آخرين، ويغني من يشاء ويفقر من يشاء وغير ذلك من شؤون خلقه، كما روى أبو الدر داء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية شأنه أنه: (يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع أقواما ويضع آخرين ) حسنه الألباني في صحيح أبن ماجة
فالحياة لا تدوم على حال، والعبد متقلب فيها بين السراء والضراء، قال الزمخشري في قوله تعالى : “الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين “آل عمران .أي (في جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرة ).
فهو متقلب في كل ذلك بسبب ما يباشر من أسباب مؤدية إلى السراء أو الضراء، وليس ذلك قاصرا على بني البشر فقط، بل حتى في الحيوان فهو يدفع حالة الضراء بالجوع مثلا بما تضادها من الشبع المؤدي إلى السرور، ويحاول التخلص من حالة الضر التي يعيش فيها بحبس أو تهديد بافتراس إلى مباشرة أسباب النجاة من هروب يدفع به حالة الضراء ليحصل السرور والطمأنينة، وكذلك الحال بالنسبة للإنسان صغيرا أو كبيرا مسلما أو كافرا، وإذا تأملنا في السنة النبوية نجد أحاديث موجهة في هذا المظهر من مظاهر التدافع كقوله صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم :(استعن بالله ولا تعجز ) كذلك أمره صلى الله عليه وسلم بالتداوي ليدفع العبد ما أصابه من ضر فيحصل له السراء، روى أسامة بن شريك قال : قالت الأعراب : يا رسول الله، ألا تتداوى؟ قال : (نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له الشفاء ، إلا داء الهرم ) رواه أحمد
إقرأ أيضا: التواج يكتب: في غمرة الوباء.. التضرع إلى الله بالدعاء طريق الفرج |
والقرآن الكريم حين يسوق قصص الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم، يبرز ضمن ما يبرز سعيهم إلى دفع الضراء التي أصابتهم بتعاطي أسباب السراء والحث على ذلك، ومثاله ذكر الله نبيه موسى عليه السلام أنه قال لقومه :”يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ” يونس : 84 جاء في تفسير السعدي : موصيا لهم بالثبات والصبر على البلاء، واصفا لهم طريق الخلاص من هذه الضراء، مذكرا لهم بما يستعينون به على ذلك قائلا لهم :”استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ” الأعراف 128\129 (إذن فهذا نبي الله موسى عليه السلام الذي يوقن بحقيقة الإلوهية وتشرق في قلبه، يحدّث قومه بقلب النبي ولغته، فيوصيهم باحتمال الفتنة والصبر على البلية، والاستعانة بالله عليها ليندفع عنهم حال بحال بعد مباشرة أسبابه، ويعرفهم بحقيقة الواقع الكوني، فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة لمن يتقون الله ولا يخشون أحدا سواه) ظلال سيد قطب .
إذن هاهو سيدنا موسى يرسم لنا المنهج الصحيح في سيرنا إلى الله، ونحن في ظلال هذه الأزمة وتفشي هذا الوباء لا تقعدنا المصيبة ولا توهنا مدافعتها بأسباب الوقاية ثم الاستعانة بالله وكلنا موقنون بحسن العاقبة فإن لم نرها في دنيانا فهي تنتظرنا في أخرانا.
فالتدافع إذن بين السراء والضراء دائم متصل، قائم في شعور كل حي لدفع الضراء التي نزلت به بتعاطي أسباب السرور، والذي يدبر ذلك كله هو الله الخالق المدبر سبحانه.
ثانيا : دفع السيئة بالحسنة :
الحسنة يعبر بها في (المفردات 235)عن كل ما يسر من نعمة تنال الإنسان في نفسه وبدنه وحاله والسيئة تضادها.
والإنسان في هذه الحياة يتقلب بين الحسنات والسيئات، فإما أن تجده يدافع سيئات نفسه بالحسنات أو يدافع سيئة غيره بالحسنة.
مدافعة العبد سيئات نفسه بالحسنات :
دلت النصوص الشرعية على أن كل ابن آدم مكتوب حظه من السيئات مدرك ذلك لا محالة، قال صلى الله عليه وسلم : { كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون}سنن الترمذي.
فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن إلى طريق النجاة من تلك السيئات بدفعها بالحسنات، وكلنا اليوم أصبح يحدث نفسه كيف كان حالي قبل كورونا وكيف سأكون بعد كورونا ومعلوم أن المؤمن في سيره إلى ربه لا يزال في مدافعة بين الحسنات والسيئات قال صلى الله عليه وسلم : (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ) رواه مسلم
إذن رسولنا الكريم يسطر للمؤمن منهجا في مدافعة سيئات نفسه هي الفارق بين المؤمن وغيره من أهل الفسق والكفر، فهو لا يزال يدافع ما يقع منه من الزلات بالحسنات الماحية، من التوبة والاستغفار والأعمال الصالحة، وهنا السر .
والآيات في هذا المعنى كثيرة وهي تقرب من سبع وسبعين آية كما ورد في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن، نقتصر على هذه : يقول عز من قائل : “ويدرؤون بالحسنة السيئة ” الرعد 22
ومعنى الدرء: الدفع والطرد وهو جامع لعدة معان بينها صاحب التحرير والتنوير: دفع السيئة إذا صدرت من المكلف بالحسنات الماحية وفيه حديث أبي در رضي الله عنه ( اتق الله حيث ما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها )أخرجه أحمد.
دفع إساءة من أساء بالإحسان إليه كقوله تعالى:”ادفع بالتي هي أحسن السيئة ” المؤمنون 96.
العدل عن فعل السيئة بعد العزم على فعلها فإنه حسنة درأت سيئة وفيه قوله صلى الله عليه وسلم 🙁 من هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة )رواه البخاري
مدافعة العبد سيئة غيره بالإحسان إليه:
لقد اقتضت حكمة الله أن يعيش الناس في هذه الحياة البشرية مختلفين في سلوكهم وأخلاقهم وعقائدهم، فيهم المؤمن والكافر، وفيهم التقي والفاسق، وفيهم العالم والجاهل، وفيهم الحليم والسفيه، وفيهم حسن الأخلاق وسيؤها، لذلك فشرائع الله جاءت لتهذيب النفوس وإصلاح الأخلاق فأرشدت المكلف إلى الطريق الصحيح في التعامل مع الآخرين بما يعود على المكلف ومن تعامل معه بخيري الدنيا والآخرة، وهذا نبينا الكريم يرسم هذا المنهج بقوله : (أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك )صححه الالباني
فهذا الحديث فوق أنه ينهي المؤمن عن مقابلة خيانة الخائن بمثلها، لأن الخيانة صفة المنافق وهي دليل على خسة في الخلق منزه عنها المؤمن فهو أيضا يرسم للمؤمن منهجه في التعامل بدفع سيئة المسيء بالإحسان إليه لأن سلوك الإنسان ينم عن أخلاقه وقدر التزامه بمبادئ دينه، ولعله بذلك السلوك الحسن يعظ المسيء فيكون نافعا له ومن الآيات الدالة عن ذلك قوله تعالى :{ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون }المؤمنون 96 ترغيبا للمؤمن وإرشادا له إلى هذا النوع من المدافعة.
ثالثا : مدافعة النوازع:
إن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في هذا السياق تدفع بالمكلف نحو الإيجابية، فنوازع الخير التي تناديه بها فطرته أولى بالغلبة بعد التدافع بينها وبين نوازع الشر، جاء في تفسير المنار : ( إذ أنه حين يرجع إلى نفسه عندما يهم بعمل شيء يجد فيها خصمان متدافعان أحدهما يأمر بالعمل وسلوك طريق العوج ، والآخر ينهاه عن العوج وإمضاء نوازع الخير ) وبالتأمل في الآيات القرآنية الواردة في هذه الصورة من التدافع نجدها تتنوع ما بين تنبيه للمؤمن على نوازع الشر فيه وبين حثه على مدافعتها، أول مثال على ذلك قول امرأة العزيز مقررة: ” إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ” يوسف 53.
فجاء التأكيد ب (إن) ولام التوكيد في (لأمارة) والمبالغة في لفظ (أمارة) حتى يتضح أن أصل حال النفس أنها نزاعة إلى الشر داعية إليه، (فإذا أراد الله سبحانه لها خيرا جعل فيها من تزكو به وتصلح من الإرادات، والتصورات، وإذا لم يرد لها ذلك تركها على حالها التي خلقت عليها من الجهل والظلم.
وهاهو البلاء الذي أصابنا اليوم يحرك فينا هذه الكوامن ويجعلنا نعيش أمام حقيقة :
إن الذي خلق هذه النفس، والذي يعلم داءها ودواءها والمطلع على دروبها الملتوية ومنحنياتها، ويعلم مكامن الأهواء فيها والأدواء، ويعلم كيف تدافع في نوازعها وكيف تطارد مكامنها، إنه سبحانه يستحث عباده على المجاهدة المتواصلة والمدافعة الطويلة الأمد حتى تعالج من آفاتها وتترقى بمستواها نحو الآفاق، قال تعالى : “وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ” النازعات (40-41)، هذه نتيجة من خاف مقام ربه أما من طغى فالله يقول في حقه : ” فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى ” النازعات(37-39).
قال تعالى حاثا على مدافعة نوازع النفس ” الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين”آل عمران 134 فأخبر سبحانه عن محبته لأهل الإحسان الذين من صفاتهم، أنهم يدافعون عن أنفسهم نوازع الشر، فيكظمون الغيظ، والكظم حبسه (ورده في الجوف إذا كاد أن يخرج من كثرته ) أورده الطبري والغيظ : ( أشد الغضب وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من فوران دم قلبه) فدعا الله المؤمنين إلى مدافعة أنفسهم عند اعتراء الغيظ رجاء ما عنده سبحانه، ولا يوفق لها إلا من آثر ما عند الله وحرص على هذا النوع من المدافعة، وقد رتب الله سبحانه على النوع الأجور العظيمة حثا عليه .
ختاما :
إن مظهر وصور التدافع مما قدمناه سابقا تجعلنا نوقن بأن الله قد أقام عليها هذه الحياة وهي مما قدره الله عز وجل في هذه الحياة ، فهذه الأخيرة لا يمكن أن تسودها السراء المطلقة بحيث تخلو من الضراء وبالمقابل لا يمكن أن تعاني من الضر المطلق بل حياة الأفراد والجماعات تتقلب بين هذه وتلك وفي المحصلة نقول إن سنة الابتلاء بالسراء والضراء ومكابدة الإنسان في مدافعة السيئات والحسنات بداخله لهو من أسرار الحياة التي خلق الله العباد لأجلها {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} الملك 2 ، فهل اكتشفناه ونحن نسبر أغوار أزمة كورونا؟؟
أمال رغوت