من الشارع إلى صندوق الاقتراع – حسام الشعبي

دلالات فوز ممداني في نيويورك كمؤشر على تآكل الهيمنة الصهيونية على النخبة الغربية
في قلب نيويورك وموطن نشأة الرئيس دونالد ترمب في أهم معاقل النفوذ الصهيوني، لم يكن فوز المسلم زهران ممداني بمنصب عمادة المدينة حدثا سياسيا بسيط، بل كان زلزالا حقيقيا، لم يقتصر على الردود الغاضبة من اليمين الأمريكي فقط بل عبرت عليه بوضوح الصدمة العميقة للقيادة الإسرائيلية في مختلف الوزارات وكذلك كبرى شركات الإعلام الرسمية الذين اعتبروه “استفتاء معاديا”.
لكن، ما فاتهم أن هذا الإنجاز ليس سوى تتويج لمؤشرات تحول بدأ يتراكم على نطاق واسع على مستوى الغرب، فلم يكن عبثا في الشهر الماضي أن تقوم جلّ العواصم الأوروبية ومهد الحضارة الغربية بإحياء ذكرى السابع من أكتوبر، والذي مثل انحيازا حقيقيًا لفكرة المقاومة، وبيعة بالمعنى الرمزي والشرعي للرجل المقاوم، وتخليصا فعليا له من سمة “الإرهاب” التي سعت الآلة الصهيونية والبروباغندا الغربية إلى إلصاقها ظلما وزورًا بالمقاومة، وكذلك ثورة وانتفاضة حقيقية على آلة التضليل والخداع وغسل الدماغ التي مورست طويلًا ضدها.
إن هذا الخروج الشعبي الواسع في تلك الذكرى تحديدًا، وما يمثله من وعي جمعي غربي جديد، يدفع هذه الشعوب إلى سياق يجعل منها مسمارًا آخر في نعش الفكرة الصهيونية وفكرة الكيان، وانتصارًا استراتيجيًا للمقاومة، وكذلك عبئًا ثقيلًا يُضاف إلى الأعباء التي أثقل الكيان بها الدول الغربية الراعية له والنموذج الإنساني الغربي عمومًا.
اليوم أصبح هذا الوعي الجمعي الإنساني المقاوم يشكل أداة عقاب للفاعل السياسي، وأصبحت الحكومات الغربية، وخاصة الأوروبية، تستشعر هذا العبء من شعوبها ونخبها وطلبتها. وما شهدناه قبل أسابيع في الجمعية العامة للأمم المتحدة من اعترافات متتالية بدولة فلسطين، وما تلاها من قرارات بحظر تصدير الأسلحة التي قد تُستخدم في غزة من حكومات طالما سبحت بحمد “إسرائيل” كألمانيا، ليس إلا تجليًا من تجليات هذا العبء وتحولًا جذريًا في بنية العقل الغربي. فقد بات الجميع في مختلف المجالات السياسية والحقوقية، بل حتى الرياضية، يدرك أن أي استمرار في التواطؤ أو الصمت أو دعم للإبادة الجماعية سيكون ثمنه فادحًا شعبيًا، سياسيًا وانتخابيًا.
وفي هذا السياق، يمكن فهم أن فوز ممداني اليوم بمنصب عمدة نيويورك لم يكن حدثًا استثنائيًا فحسب، بل جاء تتويجا لطفرة في تحول الوعي الأمريكي الذي بدأ يتحرر من سطوة الرواية الصهيونية وهيمنتها الأخلاقية. فممداني كان المرشح الوحيد الذي أعلن صراحة أنه لن يزور “إسرائيل” بل سيعتقل المجرم بنيامين نتنياهو إذا زار المدينة في حالة فوزة بالانتخابات، وهو ذاته الذي هاجمه دونالد ترامب علنا، داعيا اليهود إلى عدم التصويت له، بل مهاجمًا حتى اليهود الذين صوتوا لصالحه.
هذا الموقف وما رافقه من نسبة مشاركة غير مسبوقة في تاريخ المدينة يمثلان في جوهرهما كسرا لاحتكار الخطاب السياسي الغربي الرسمي المتصهين، وإعلاءً لصوت الضمير الإنساني على حساب لغة القوة والنفاق السياسي. لقد تحول فوزه إلى إعلان سياسي وأخلاقي بأن مرحلة الطاعة والخضوع لإسرائيل بدأت تتصدع، حتى في قلب الإمبراطورية الإعلامية والمالية التي طالما كانت الحاضنة الكبرى للفكر الصهيوني.
إن هذه التحولات الكبيرة السريعة المتمثلة في وعي الطوفان والتي تحولت إلى طوفان وعي العالمي، تؤكد أن المستقبل قد تكفّل برسمه رجال السابع من أكتوبر، الذين دفعوا الأثمان الباهظة وقدموا التضحيات الجسيمة في سبيل الحرية والكرامة. بمقاومة أسطورية خالدة، تجاوزت في أبعادها التحرُيرية حدود فلسطين المحتلة لتصل إلى عالم يشهد احتلال من نوع آخر، محطمة أصنامًا حكمت وتحكمت في الوعي الجمعي العالمي بالحديد والنار، وهي أول خطوة تستشرف تغيير مجرى التاريخ كما قال القائد العام، لتؤسس مشروعًا تحرريًا شاملًا، لا يقتصر على تحرير الأرض وحدها، بل يمتد إلى تحرير الوعي والفكر والقيم، لتكون الأرض تتويجًا للتحررات المتراكمة وبداية لإعادة تشكيل العدالة والكرامة في ضمير الإنسانية، بإذن الله تعالى ووفق منهج “ولكن الله رمى”.




