مقدمات في تاريخ الأزمات – محمد بالدوان
عند توالي الازمات يهلع الناس مرددين”اقتربت الساعة…”، كأن ما أصابهم غير مسبوق، مثلما نقول إثر كل تحول فصلي؛ لم نعش صيفا أحر من هذا، أو إن هذا الشتاء الأشد برودة على الاطلاق، وفي العام القادم نعيد ذات الوصف دون أن نذكر الذي مضى. لكن الأمر يزداد تعقيدا إذا أُنزل على التاريخ بتعاقب عقوده وأجياله وقرونه، وعلى الاجتماع السياسي بتناقضاته الإيديولوجية وتشابكاته المصلحية وتحولات علاقاته الدولية.
إن ما يضرب عالمنا اليوم من أزمات وهزات ليس جديدا، قد نراه مستجدا لكوننا لم نؤسسإدراكنا له على نحو علمي، لذلك نواجهه بذات الانفعالات والمواقف والأخطاء لنصطلي بذات الأزمات، وأقصى الفطنة بما يجري تقول: “التاريخ يعيد نفسه”! ليس التاريخ من يعيد نفسه عزيزي الانسان، بل أنت من يعيد إنتاج نفس المأساة والاحداث والازمات، في غياب تام عن الوعي التاريخي بالقضايا والسياسات.
قد نجد لما يجري اليومأشباها له في الماضي، إذا ما مددنا أبصارنا بعيدا وأنصتنا لدروس التاريخ منذ القرن 19م على الأقل؛ ففي مطلع القرن 19م ظهر داء الكوليرا القاتل، واشتد التنافس الامبريالي الأوروبي بعد أطوار من الصراع الداخلي الطاحن بين القوى المحافظة والحركات القومية، ورغم عقد الاتفاقات والمؤتمراتلم يتوقف توالي الأزمات في أوروبا، إذ لم تسهم التوافقات إلا بتأجيل الحرب، وكانت أصوات الممانعة تقف عاجزة أمام الدعاية الشرسة التي وظفت ضغائن الماضي وأحيت مشاعر الانتقام بين القوميات لتشعل فتيل الحرب، فما لبث أن تفجر الوضع واندلعت الحرب العالمية الأولى(1914-1918) بعد إنتاج”الحدث- الصدمة” باغتيال ولي عهد النمسا على يد شاب صربي مهووس بالمشاعر القومية.
لم تقف الآلة المنتجة للازمات عند هذا الحد، سيظهر فيما بعد بأنها كانت تريد كسب رهانات كبرى، إذ رغم الأزمة الخانقة الناجمة عن الحرب وتداعياتها الوخيمة على الامبراطورية العثمانية مثلا، بقيت الممانعة ورفض السلطان عبد الحميد الثاني العرض المالي المغري لتيودور هيرتزل، والذي كان كفيلا بإخراج العثمانيين من الازمة، مقابل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، كما لم تكن الدول الأوروبية مستعدة للاعتراف بالوطن الجديد، باستثناء بريطانيا التي أبدت تعاطفها بوعد بلفور منذ 1917.
كما أنه في نفس السياق ستتعزز التناقضات بعد تأسيس الاتحاد السوفياتي وتصدير الفكر الشيوعي إلى أوروبا الغربية الغارقة حينها في الازمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الناتجة عن أضرار الحرب وتصاعد سياسة رفع الرسوم الجمركية بين الدول، فضلا عن انتشار الانفلونزا الاسبانية التي حصدت أرواح الملايين.
توالت وتنوعت الأزمات طيلة عشرينيات القرن20م، حيث صار الاستقرار مستحيلا، وتزايد الصراع الايديولوجي والديني والعنصري، وفي ظل الفراغ السياسي ستتولى التيارات الفاشية والنازية مهمة إرجاع الاستقرارعن طريق العنف السياسي، لتتأسس مشروعية جديدة تناقض المشروعية الديمقراطية، ويتواصل الصراع من جديد بين حلفاء الديمقراطية ومحور الديكتاتورية في العالم والذي انتهى بحرب عالمية ثانية أكثر فتكا وحسما لصالح القوى العظمى التي بدت الاكثر تنظيما وإحاطة بكل تناقضات ومسارات الاحداث.
ثم لم يسترجع العالم أنفاسه حتى استيقظ على إيقاع صراع جديد وأزمات تترى فجرها التقاطب السوفياتي- الأمريكي قبل أن يتوارى المعسكر الاشتراكي فاسحا المجال لنظام عالمي أنهك كل الدول والتوجهات والقوميات ليتربع على عرش القيادة بمفرده. ترى هل سيغير استراتيجيته في تحقيق الاهداف والانتصارات؟
طبعا لا يمكن بحال تغييرفريق يكسب النزال، إذواصلت ثلاثية التأزيم الاقتصادي المفضي إلى التأزيم الاجتماعي المفضي إلى التأزيم السياسي الاشتغال كآلة بثلاث حلقات مسننة متصلة تغذي بعضها بعضا مخلفة موجبات الوهن عند الامم ومقومات القوة عند النظام العالمي الجديد.
حاليا بعد الحرب التجارية ودنو انتهاء أزمة كوفيد19، أطلقت أزمة الصراع العنصري داخل الولايات المتحدة مع السعي إلى عولمتها تعميقا للأزمات من ناحية، ولصناعة واقع من الفوضى لا يقدر على إخماده سوى منطق القوة، وواقع الافلاس الاقتصادي لكل الفاعلين بحيث لا ينجوا من الافلاس إلا من تجند لخدمة أجندة الأسياد الذين لا تنفد خزائنهم، ومن ثم يتم تقويض الشرعية الديمقراطية وخلق ظروف وفرص مناسبة لصعود ترامب من جديد، وهذا هدف حيوي لنظام القطب الواحد إذ من الخطر أن تتوقف مشاريع الهدم والاخضاع خاصة بعد أن كثرت عناصر الممانعة عند الأمم، لا بل وصعود اقتصادات قادرة على إعلان التفوق على الولايات المتحدة.
كأنه من اللازم عند بداية كل قرن أن تشتغل منظومة التأزيم لتكسب أهلها مقومات القيادة على امتداد قرن كامل، فقد بدأ العقد الأول من القرن21م بتفجيرات 11شتنبر و”الحرب على الإرهاب”، أما العقد الثاني فيشهد ما نعيشه حاليا، وهو ذات ما وقع في بداية القرن الماضي؛ الحرب العالمية، الإنفلونزا الاسبانية، الأزمة الاقتصادية الصراع الديني الإيديولوجي والعنصري…، ولم يبق غير الحرب التي اندلعت في الثلاثينيات، وإعلان دولة “إسرائيل” في الأربعينات مع اعتراف دولي بها، ولعل التحرشات المتواصلة بالصين هو ما سيتوج بحرب كونية أخرى، وبعد كسب رهان الاعتراف بإسرائيل، قد يكسب القطب الواحد رهان الاعتراف بالقدس عاصمة لها والضفة الغربية والجولان ترابا لها..
آمل ألا يكرر الإنسان ذات خطاياه ببلادة، وألا يستجيب لنداءات مغرية براقة يبدو ظاهرها حرية وحقوقا وديمقراطية، وباطنها استعبادا وسطوا وديكتاتورية، ليس لأنها صارت اليوم مشبوهة، بل لأنها أضحت مع التواتر التاريخي جد مكشوفة.