مقاصد الصيام وقصور التعريف – الشرقي قصاب
كثيرة هي التعاريف المصكوكة للمعاني والمفاهيم والتي إذا تأملناها نجدها لا تعبر عن المعنى الدلالي على وجه الحقيقة، ولأن المناسبة شرط نتناول في هذا المقال تعريف الصيام والمشكل الذي يوقعنا التعريف البسيط للصيام عند أغلب الفقهاء، فبينما نجد الوعاظ والمربين يدبجون المواعظ والخطب في مقاصد الصيام وغاياته وفوائده الكثيرة، إلا أن التعريف الفقهي يقتصر على الجانب المادي والزمني فقط، فيحكم التعريف باجتناب الأكل والشرب والجماع في حال الصيام، فإن فعلت هذا فإنك قد صمت وصيامك صحيح فقهيا، وذلك ما يوهمنا به تعريف الصيام في أغلب تعريفات الفقهاء، حيث يفيد معنى واحد متفق بينهم، وهو قولهم:”أن الصيام هو الإمساك عن المفطِّر على وجه مخصوص”، ومعنى هذا التعريف تفصيلاً: أن الصيام هو إمساك المكلَّف الذي يريد عبادة الصيام، وهو المسلم البالغ العاقل، العالم بوجوب الصيام، الناوي له، والمُطِيق له، غير المباح له الفطر لسفر، أو مرض، ونحوهما – عن تعمُّد ما يُفسد صومه من المفطِّرات، ويكون ذلك الإمساك من طلوع الفجر الثاني الصادق من يوم الصيام إلى غروب شمسه.
والحقيقة أن هذا التعريف لا يستوعب معنى الصيام المقصود في الكثير من السياقات القرآنية والحديثية التي تجعل مقاصد الصيام أسمى وغاياته أرقى، وتحيل الصيام إلى مدرسةً للتزكية الأخلاقية والإيمانية نسلكها سعيا لمدارج الروح البشرية، فنجد القران الكريم في سياق آيات الصيام يخاطب المومنين بأن الغاية هي التقوى وما تشمله من خصال الفضيلة، موردا لها في سياقٍ الترغيب في كمالات التقوى، ويدلنا كذلك على ارتباط مباشر بين فعل الصيام والتقوى كما في قوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة 183، وكذلك في سياق حديث القران عن مباحات ليالي رمضان ونواهي الاعتكاف حيث قال تعالى:(ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها، كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون). البقرة187، وفيها أيضا ذكر للتقوى كمقصد من مقاصد الصيام تندرج فيه الكثير من الصفات والقيم الحميدة، وهذا الختم لآيات الصيام بكلمة التقوى له دلالة غائية توضح الغاية منه، فالقران الكريم يختم الآيات بخلاصات جامعة مانعة كما هو الحال عندما علمنا آداب الاستئذان في البيوت ختم الآيات بقوله:(هو أزكى لكم) وحين أمر المؤمنين بغض الأبصار نبهنا إلى الفائدة الاجتماعية من ذلك بقوله:(ذلك أزكى لهم).
والأحاديث النبوية الشريفة توسع دائرة الصيام من الإمساك عن المادي مؤقتا إلى أمور أخرى معنوية، وتعطيه دلالات روحية وإيمانية وتربوية، وهي الغاية من الصيام أساسا، كما ورد في الحديث:”من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه”.(رواه أحمد وأصحاب السنن)، بل إننا نقف أمام تعاليم نبوية نتساءل كيف أغفل الفقهاء معانيها ودلالاتها، وهي أوضح من الشمس في كبد السماء، من قبيل قوله صلى الله عليه وسلم:(من لم يَدَع قول الزُّور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).[رواه البخاري]، فالصائم الحق هو الذي جمع بين الإمساك المادي والمعنوي وإلا لا يعدُّ صائما، بل هو كما سماه الحديث ترك للأكل والشرب وسماه حديث آخر جوع وعطش، حيث قال صلى الله عليه وسلم:(رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظُّه من قيامه السهر والتعب)، [أخرجه الإمام أحمد في مسنده].
فهناك مقاصد تربوية روحية وسلوكية من الصيام، وهي روح الصيام، وترك الأكل والشرب شكله، وقد ذكر الإمام ابن رجب أنَّ بعض السلف قال:(أهون الصيام ترك الشراب والطعام، وقال جابر:(إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء).
ومن المؤكد أنَّ الأحكام إذا ربطت بعللها ومقاصدها اقتنع الناس بها، وجاءت الأفعال مطابقة ومتضمنة لها، بغية القبول والثواب، وكان لها دورٌ كبير في تأديتها على الوجه اللاَّئق بها؛ فإنَّ كثيراً من الناس يلتزمون العبادات، بيدَ أنَّهم قد يفقدون روحها ومعانيها، ولعلَّ من أسباب ذلك ضعف علمهم بمقاصدها؛ فيؤدُّون عباداتهم أقرب إلى الطقوسية والاحتفالية، فلا يشعرون بلذَّتها وحلاوتها، لهذا فنحن اليوم أمام مطلب إعادة النظر في تعريف الفقهاء للصيام ليشمل مقصده الكلي الذي شرع من أجله، ولا نبقى حبيسي بعض الاجتهادات في تراثنا الإسلامي التي لا تُلائم مقاصد التشريعات، وحتى يكون امتثالنا كاملا وتتحقق منه غايات العبادات الشرعية، ونصحح انحرافا اجتماعيا في التعامل مع الصيام الذي يتجلى في الكثير من مظاهر العنف والبذاءة التي نراها في أيام رمضان.