مظاهر العمل في حياة الأنبياء
رسخ النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ ضرورة العمل وأنه باب المغفرة ووجه أصحابه إلى ذلك قائلاً: (من أمسى كالاًّ من عمل يده بات مغفوراً له)، ويؤسس هذه القاعدة الجليلة في المكاسب بقوله صلى الله عليه وسلم: (أطيبُ ما أكَل المؤمِنُ من عمَلِ يدِهِ).
بل جعل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في العمل نوعاً من أنواع الجهاد في سبيل الله تعالى، فعن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه قال: (مرَّ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجلٌ فرأَى أصحابَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من جلَدِه ونشاطِه فقالوا يا رسولَ اللهِ لو كان هذا في سبيلِ اللهِ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إن كان خرج يسعَى على ولَدِه صغارًا فهو في سبيلِ اللهِ وإن كان خرج يسعَى على نفسِه يعَفُّها فهو في سبيلِ اللهِ وإن كان خرج يسعَى رياءً ومُفاخرةً فهو في سبيلِ الشَّيطانِ).
صور من عمل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة المجتمع كله في العمل، لا يأنف من أي عملٍ يدوي يقوم به ما دام مشروعاً وذلك في زمانٍ قد أَنف فيه كثير من الأحرار أن يعملوا لأن ذلك حرف العبيد لديهم، ففي صبا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم خرج في رحلات متتابعة للتجارة في مال السيدة خديجة رضي الله تعالى عنها، وقبلها كان يخرج في رحلة الشتاء والصيف إلى اليمن أو الشام مع عمه أبي طالب، وقد رعى الغنم في مكة قبل بعثته المباركة، وقال في ذلك: (ما بعث اللهُ نبيًّا إلا رعى الغنمَ. فقال أصحابُه: وأنت؟ فقال: نعم، كنتُ أرعاها على قراريطَ لأهلِ مكةَ).
وفي بناء المسجد النبوي الشريف تتجلى قيمةُ العمل في الإسلام حيث يقوم رأس الدولة ذاته بالعمل في البناء وبذل الجهد بيده ولم يتخذ له حجابا ولا عُلِّيَّةً من دون البناة وحُمَّال الحجارة بل كان يحمل معهم فلما رأى الأصحاب ما لا مثيل له في قيادات البشرية قالوا:
لئنْ قَعَدْنَا والنَّبي يعْمَلُ ***** لذَاكَ منَّا العَمَلُ المضَلَّلُ
وكذلك في غزوة الأحزاب كان يمسك المعول بيده الشريفة ويفتت به الحجارة الصماء في شق الخندق، وكان الصحابة الكرام يرونَ الغبار على جلدة بطنه الشريف صلى الله عليه وسلم.
وفي بيته المبارك حيث تنزلت الملائكة وأنوار العبادة تتجلى قيمة العمل في الإسلام كما روى عروة ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما أنه سأل خالته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بقوله: (قُلْتُ لعائشةَ: يا أمَّ المؤمنينَ أيُّ شيءٍ كان يصنَعُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا كان عندَكِ؟ قالت: ما يفعَلُ أحدُكم في مِهنةِ أهلِه يخصِفُ نعلَه ويَخيطُ ثوبَه ويرقَعُ دَلْوَه).
الأنبياء والصحابة والعمل:
لم يكن الأنبياء المطهرين عليهم السلام ومعهم الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم أجمعين في معزلٍ عن العمل، بل اقتحموا الميدان على اختلاف مناشطه وجهوده، فعن نبي الله داوود عليه السلام قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (ما أَكَلَ أَحَدٌ طعامًا قطُّ، خيرًا من أن يأكلَ من عملِ يدِه، وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ عليهِ السلامُ كان يأكلُ من عملِ يدِه)، فقد كان نبي الله داود عليه السلام يعمل في صناعة الدروع الحديدية وما شابهها كما قال عزّ وجل: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، وقال الله تعالى عن داوود أيضاً: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾، وقال الله تعالى عن نبيه سليمان عليه السلام: ﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ﴾.
ومن قصة موسى الكليم عليه السلام في أرض مدين نجد أنه قد وافقَ أن يكون أجيراً، يعمل ويكد بعرق جبينه وهو من أولى العزم الكبار، قال الله تعالى: ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾.
وقد عمل جمعٌ من أولى العزم من الأنبياء أيضاً في رعي الغنم، قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (بُعِثَ موسى وهوَ راعى غنم، و بُعِثَ إبراهيمُ وهوَ راعى غنَمٍ، و بُعِثْتُ أنا وأنا أرعَى غنمًا لأهلي بأجيادٍ).
وعلى ذلك سارت سنة الأنبياء الكرام يعملون ولا يأنفون، فآدم – عليه السلام – فلاّحا يحرث الأرض ويزرع بنفسِه، وكان نبي الله إدريس عليه السلام خياطا، وسيدنا نوح عليه السلام نجارا وخليل الله إبراهيم عليه السلام بناء، وهو الذي بنى الكعبةَ الشريفة وعاونه في عملية البناء ولده إسماعيل عليه السلام، وكان نبي الله إلياس عليه السلام نساجا، وسيدنا عيسى عليه السلام يعمل بالطب.
وعلى ذلك سار صحابة النبي الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فقد كانت لهم أعمال هم لها في المهن عاملون، فكان الصديق أبو بكر تاجر أقمشة، وعمر بن الخطاب دلالا، وعثمان بن عفان تاجرا، وعلى بن أبي طالب عاملا وكان يقول مفتخراً:
لحملي الصخرَ من قمَمِ الجبالِ
أحبُّ الىَّ من منن الرِّجَالِ
يقولُ الناسُ في الكسبِ عارٌ
فقلتُ العارُ في ذلِّ السُّؤَالِ
وكان عبد الرحمن بن عوف تاجرا، والزبير بن العوام خياطا، وسعد بن أبى وقاص نبالا أي يصنع النبال، وعمرو بن العاص جزاراً، وكان ابن مسعود وأبو هريره لديهم مزارع يزرعونها وكان عمار بن ياسر يصنع المكاتل ويضفر الخوص.
الإصلاح