محمد يتيم يكتب: معركة الوعي .. معركة فكرية وأخلاقية دائمة

1- معركة الوعي معركة يومية مع الأهواء ومع الباطل الذي يلبس لبوس الحق
 
هي معركة مع ” القيم الجاهلية ” التي تدافع هي الأخرى يوميا قيم الحق والهدى والعدل والإنصاف والانتصاف ولو من النفس .. وقيم الجاهلية هي كل القيم التي جاء الإسلام لمواجهتها واستئصالها وعلى رأسها الاعتداء على حرية الاعتقاد، وحرمة الأنفس باستباحة الدماء  واستباحة الأعراض بالإفساد والفساد الأخلاقي .
 
هي كل النوازع السلبية المفككة للاجتماع البشري من شح مطاع، وهوى متبع ودنيا مؤثرة واعجاب كل ذي رأي برأيه . هي كل دعوة للارتكاس إلى الاستجابة لمنطق الغريزة بدل منطق الفطرة ومنطق الهوى بدل منطق التقوى  ومنطق الأنا ضد منطق الجماعة .. ومنطق التفكيك بدل منطق التوحيد والوحدة .

 2 –  شهادات حية 
لقد كانت النقلة التي حققها الإسلام في الجزيرة العربية نقلة كبيرة بل ثورية، وذلك من خلال تهذيب الإنسان العربي وتحجيم النوازع السلبية المفككة للاجتماع البشري، التي تجعله في حالة تنازع وصراع و” ذئبية ” في تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان  الإنسان ذئب لأخيه الانسان كما يقول هوبز !!. 
ومن تلك النوازع التفكيكية للجماعة والمجتمع : الشح المطاع والهوى المتبع والدنيا المؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه كما ورد في حديث أبي ثعلبة الخشني. وتؤكد تلك النقلة  شهادات حية  ممن عاشها ..

ومن أهم الوثائق التاريخية في هذا المجال خطاب جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي  حين قال: “أيها الملك! كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.”
 
شهادة أبي سفيان بين يدي هرقل حين أرسل إليه واستفسره عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال : “ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَألَنِي عَنْهُ أن قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ‏. قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لاَ‏. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لاَ‏. قَالَ: فَأشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ‏. قَالَ: أيَزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ‏.
قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لاَ‏. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لاَ‏. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لاَ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ‏. قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ‏. قَالَ: مَاذَا يأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ “.

فما كان من هرقل إلا أن أجاب قائلا : ” وسألتك هل يكذب  فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه ” .
 
– شهادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه :” كُنَّا فِي الجَاهِلِيَّةِ لاَ نَعُدُّ النِّسَاءَ شَيْئًا ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ وَذَكَرَهُنَّ اللَّهُ، رَأَيْنَا لَهُنَّ بِذَلِكَ عَلَيْنَا حَقًّا” 
 
3- جهاد الوعي والعلم وجهاد النفس في مواجهة الارتكاس
 
وحيث أن هذه النقلة لا تتحقق ولا تتواصل إلا بجهاد مستمر  ومقاومة متواصلة للنوازع السلبية المتأصلة في الطبيعة البشرية، كان جهاد النفس وجهاد العلم والوعي واجبا عينيا وواحبا جماعيا ..
 ومرد ذلك إلى الصراع الوجودي القائم بين الحق والباطل بين نوازع الخير ونوازع الشر في نفس الإنسان، وفي واقعه الاجتماعي وهو صراع دائم ومتواصل .. وأن الاستقامة جهاد متواصل ينبغي أن لا يتوقف لأن انتفاضة نوازع الشر في نفس الإنسان وفكره وضميره وفي سلوكه وعلاقته بالآخرين واردة في كل وقت وحين .. 

وقد حدث ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم لا يزال بين ظهراني المسلمين كما في قصة ” ذات الأنواط “، فعن أبي واقد الليثي قال : “خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله ﷺ: الله أكبر، إنها السنن. قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138]، لتركبن سنن من كان قبلكم” رواه الترمذي وصححه .

وقوله صلى الله عليه وسلم حينما أوشك الأوس والخزرج على الاقتتال بينهم حينما ذكروا صراعاتهم وحروبهم في الجاهلية ” أبدعوى الحاهلية وأنا بين أظهركم “. وفي تحذيره صلى الله عليه وسلم : “لا ترجعوا كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض “، وهو ما سيحدث للأسف حين سيختلف المسلمون في تدبير طريقة تداول السلطة مباشرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم . .. ولا يزالون يحتكمون إلى “منطق” الشوكة والغلبة “الذي كان منطقا سائدا في الثقافة العربية آنذاك ولا يزال ..    
 
4-الحركات الاسلامية ومعركة الوعي في مواجهة اللاشعور الجمعي الثقافي
 
لم تسلم مما ذكرنا انفا حتى الحركات الإصلاحية بجميع توجهاتها ومرجعياتها بما في ذلك الحركات الإسلامية !!
 فكان ذلك انتصارا للثقافة السابقة على الثقافة الجديدة التي شرع الاسلام في بنائها … فانتصر ا” للاوعي ” أو ” اللاشعور الثقافي” على الوعي وعلى منطق الثقافة الجديدة التي كان الإسلام قد شرع في  وضع أسسها.. ولا يزال منطق الشوكة والغلبة قابعا في لاشعورنا الجمعي الثقافي. ولذلك لا يكفي الدخول في الإسلام بل يتعين تحسين إسلامنا وكما يقول الرواة ” دخل في الإسلام وحسن إسلامه ” ولا يكفي تحسين الإسلام بل الثبات على حسنه وجهاد تحسينه ..

والخطير في الأمر أن الإسلام يؤتى أحيانا من داخله حين يتلبس في السلوك والممارسة برواسب منحذرة من ثقافات سابقة أو من” قيم ميتة ” يعاد إحياؤها، أو من” قيم قاتلة ”  نفسح لها المجال بجمودنا على فكر أو تقاليد ما أنزل الله بها من سلطان كي تخترقنا .
ومن هنا تأتي معركة الوعي في مواجهة اللاوعي، ومعركة التنوير في مواجهة الجهل والقيم الجاهلية، ومعركة تسليط الأضواء على النزعات التفكيكية التي لا تزال تتلبس بخطاباتنا وتصرفاتنا الفردية والجماعية، وقد لخصها حديث أبي ثعلبة الخشني الذي أوردنا أعلاه “حتى إذا  رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة فعليك بخاصة نفسك، فإن من ورائكم أيام الصبر الصبر فيهن مثل قبض على الجمر للصابر فيهن أجر خمسبن رجلا يعملون مثل عمله”.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى