ما بعد العشر الآواخر من رمضان
يحمل الشوق نفوس عباد الرحمان لبلوغ رمضان، وهي في ذلك سائرة على نهج السلف الذين كانوا ما إن ينتهوا من صيام رمضان إلا وشرعوا في الاستعداد لرمضان الأخر. قال معلى بن الفضل حكاية عن السلف الصالح:” كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أخرى أن يتقبل منهم”.
وها قد تحققت أمنية كل سائل صادق القلب واللسان والعمل، فأدرك رمضان الجديد، ثم وفقه الله لصيامه على الوجه المشروع، ابتعادا عن الشهوات الظاهرة والباطنة، فلم يكن صيامه امتناعا عن الأكل والشرب، وإنما حسّنه بتجنب قول الزور والعمل به، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: “مَن لم يَدَعْ قول الزُّور والعملَ به والجهلَ، فليس للهِ حاجةٌ أن يَدَعَ طعامه وشرابه” رواه البخاري
لقد أفلح وربح من سعى للتعرض لرحمة الله في أوله، وإلى مغفرته في وسطه، وإلى العتق من النار في آخره، كما جاء في حديث تردد بين الصحة والضعف. ذلك هو الفوز المبين الذي يغفل عنه الكثير. فلم يترك فرصة تمر عليه إلا وهو ينتبه إلى تربص نزغات الشيطان به؛ إلا ودفعها حتى لا تفسد عليه صيامه. يقوم بذلك بنفسه، وينذر من حوله خشية الوقوع في ذلك، لأنه يحب الخير لهم، فعن أبي حمزة أنس بن مالكٍ رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”(البخاري).
وجاءت العشر الأواخر من شهر القرآن، فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن الواحد الأحد، الفرد الصمد، قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴿۱﴾وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴿۲﴾لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴿۳﴾تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴿٤﴾سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴿٥﴾» سورة القدر.
ولعل العاقل الفطن الذي يريد الظفر بالمراتب الأول في شهر الله هذا، قد عقد العزم على مواصلة السير إلى ربه رغبا ورهبا لعله يكون في ذلك من العتقاء من النار، فجهد نفسه على ألا ينشغل بسفاسف الأمور، وأن يتعلق بمعاليها من صلاة وقيام وصدقات وصد لنزغات النفس الأمارة بالسوء، لا يعدم في ذلك أي وسيلة مشروعة تحقق له الخلاص لنفسه ولمن حوله من عشيرته والأقربين، فالاجتهاد الاجتهاد في أيام رمضان هذه ليكن لنا الربح الوافر، ولا نغبن فيها فنصير من المساكين الذي غرر بهم ففاتهم كل فضل وخير ونجاح في رمضان، شهر الفوز والانتصارات على مر تاريخ المسلمين.
بقلم: عبد الحق لمهى