كيف أدارت أميركا تعاملها مع حرب غزة؟ – أحمد العطاونة

لعبت الولايات المتحدة منذ بداية الحرب على قطاع غزة وما تلاها من حروب متعددة في المنطقة دور الوسيط والراعي للمفاوضات التي تهدف إلى وقف هذه الحروب، بل إنها طرحت نفسها في أكثر من اتفاق كضامن لتطبيق الاتفاقيات وشريك في الرقابة على الالتزام بتطبيقها في بعض الأحيان.
وقد تزامن ذلك مع القيام بدورها كشريك كامل للاحتلال الصهيوني في هذه الحروب وراعٍ وداعم له في كل الظروف والأحوال. وقد وصل الأمر إلى حد المشاركة العملية والعلنية في الحرب على اليمن وإيران.
بل إن المنطق والواقع يقولان إن هذه الحروب هي حروب تخوضها الولايات المتحدة في المنطقة، وأداتها المركزية والواضحة والأكثر فاعلية هي جيش الاحتلال الإسرائيلي، والكيان بوصفه القاعدة العسكرية و”حاملة الطائرات” الكبرى على الإطلاق في العالم.
الولايات المتحدة في هذه الحروب كان لها أدوار متعددة وبمستويات مختلفة بشكل مباشر وغير مباشر، استنادًا إلى ما تتطلبه الحرب وإدارة المعركة، فتارة ينصب التركيز على الجهد العسكري، وتارة على السياسي والدبلوماسي، أو غيرهما بما يخدم إنجاز أهداف هذه الحروب.
فعندما تطلب الأمر أرسلت حاملات الطائرات والسفن الحربية والمدمرات وقامت بإمداد الكيان بكل أنواع الذخائر، وعندما دعت الضرورة إلى القصف المباشر- كما حدث في اليمن وإيران- تحركت الطائرات الأميركية من عدة أماكن في العالم للقيام بذلك.
وإذا ما كان المطلوب عملًا دبلوماسيًا أو قانونيًا أو سياسيًا، فعّلت ماكينتها السياسية للقيام بما هو مطلوب، سواء في مجلس الأمن والأمم المتحدة، أو عبر وزارة الخارجية وفريق الأمن القومي.
ومن ضمن الأدوار التي لعبتها الولايات المتحدة في إدارة هذه الحروب، وبالذات الحرب على قطاع غزة- ولعلّه أهمها- هو دور الوسيط لإنجاز اتفاقيات وقف إطلاق النار، والضامن لتنفيذها والالتزام بها، وهو التعبير الساخر الأبرز في هذه الحرب.
ومما يدلل على أن عملية المفاوضات ودور الولايات المتحدة فيها كوسيط وضامن في حالة الحرب على غزة، كان جزءًا من إدارة المعركة، وليس بهدف إنهائها، ووضع حد للإبادة الجماعية والمجازر بحق المدنيين العزل والأبرياء، مجموعة من المعطيات.. من أهمها:
الاتفاق مع الحكومة الإسرائيلية على الأهداف الكلية المعلنة للحرب، وبالذات فيما يتعلق بالقضاء على المقاومة، وتفكيك بنيتها السياسية والعسكرية، والسيطرة على قطاع غزة، مما يجعل عملية التفاوض وكل النصوص التي تقدم لا تفضي إلى وقف دائم للحرب، وانسحاب إسرائيلي كامل من القطاع، ولا تسمح للفلسطينيين بالتوافق على إدارة محلية فلسطينية لقطاع غزة، وإنما تهدف إلى الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية، وترك نهايات الحرب مفتوحة.
وهو ما يعني بالضرورة استمرار المجازر، والمجاعة، والمعاناة اليومية، على أمل إنجاز ما أُعلن عنه من أهداف سواء في موضوع التهجير، أو تصفية المقاومة، أو السيطرة الكاملة على القطاع.
تولّت الإدارة الأميركية، سواء في عهد بايدن أو ترامب، الحديثَ عن البحث عن مخرج سياسي، وبذل الجهد لإنهاء الحرب، وضرورة التزام إسرائيل بالمعايير الدولية في حربها، والاهتمام بمساعدة السكان المدنيين والإغاثة، وما إلى ذلك، وفي ذات الوقت كانت تقدّم كل أشكال الدعم العسكري والسياسي، وتستخدم حق النقض الفيتو أكثر من مرة في مجلس الأمن؛ للحيلولة دون صدور قرار ملزم بوقف الإبادة الجماعية في قطاع غزة، ما يعني ضمان استمرار الحرب.
التبني الكامل من قبل الإدارة الأميركية للرواية الإسرائيلية خلال عملية التفاوض، والعمل مع حكومة الاحتلال كفريق واحد حتى في التفاصيل، وفي صياغة نصوص الاتفاقيات، وبناء التكتيكات التفاوضية، التي تهدف لمساندة إسرائيل في إنجاز ما تريد، وحشر قوى المقاومة وحركة حماس في خانة تجعل من الصعب عليها رفض ما يطرح عليها من صيغ، كي لا تبدو وكأنها تواجه رغبة شعبها في وقف العدوان، وتخفيف المعاناة وحقن الدماء.
ففي أكثر من مرة كانت تعد نصوص الاتفاقيات لوقف الحرب من الطرف الإسرائيلي، أو بتوافق إسرائيلي أميركي، ثم يدفع بها إلى حركة حماس.
ولعل ما حدث مع مقترح بشارة بحبح الذي يمثّل ستيف ويتكوف في الجولة الأخيرة خير دليل على ذلك، حيث قدّم مقترحًا وافقت عليه المقاومة الفلسطينية بعد نقاش معه، ثم رُفض أميركيًا وإسرائيليًا، واتُّهمت حماس بالتعنّت وعدم الموافقة على النص الأصلي الذي قدّمه ويتكوف.
إصرار الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل على رفض كل الصيغ، التي قدمت من الفلسطينيين، أو من غيرهم، الداعية لوجود أطراف أخرى ضامنة للمفاوضات والاتفاقيات، فقد رُفض باستمرار أن تكون الصين أو روسيا أو تركيا جزءًا من هذه العملية، وكان يتم الإصرار على أن الولايات المتحدة الأميركية فقط- بالإضافة إلى الوسطاء المصريين والقطريين- هي الضامن الوحيد للعملية، وذلك حتى تبقى إسرائيل تنفذ ما لديها من رغبات ومن رؤية لمستقبل هذه الحرب وهذا الصراع، بلا رادع.
رفض كل الصيغ التي قدمت لوضع حد نهائي للحرب، حيث رشح أن الفلسطينيين قدموا العديد من الصيغ الكلية التي حملت مرونة وواقعية سياسية، كان آخرها ما أعلنت عنه حركة حماس وأطلقت عليه “اتفاق الرزمة الشاملة”، الذي يمكن أن يضع حدًا نهائيًا لهذه الإبادة الجماعية.
ويتضمن تبادلًا كاملًا وفوريًا للأسرى، ووقفًا نهائيًا للحرب، وانسحابًا كاملًا لقوات الاحتلال من القطاع، بالإضافة إلى التوافق على إدارة فلسطينية للقطاع وهدنة طويلة الأمد، ودور وضمانات لأطراف عربية أو إسلامية أو دولية لتطبيق الاتفاق.
لكن تم رفض كل ما قدم أميركيًا قبل أن يرفض إسرائيليًا، ولم يسمح له بأن يكون جزءًا من أي من نصوص الاتفاقيات التي تم الحديث عنها.
ترفض الولايات المتحدة الأميركية- ولم تعمل ولو لمرة واحدة على- أية مقاربة متكاملة تضمن إدارة فلسطينية لقطاع غزة، وإنما ذهبت بعيدًا في التهديد أو التلويح بخيارات تخدم الرؤية الإسرائيلية، بل أحيانًا تذهب أبعد مما طرحه الإسرائيلي، من قبيل تهجير الفلسطينيين أو السيطرة على قطاع غزة وتحويله إلى ريفييرا، وغيرها من الأطروحات غير الواقعية والتي تضرب بكل الحقوق الفلسطينية عرض الحائط، بل وتهدد الوجود الفلسطيني والقضية الفلسطينية، وهو ما ينسجم تمامًا مع الرغبة والإرادة الصهيونية.
المساندة الأميركية المستمرة لإسرائيل على المستوى الدولي في الملف القانوني، وممارسة التهديد والضغط على كل من يمارس ضغطًا حقيقيًا على إسرائيل يمكن أن يساهم في وقف هذه الحرب عن طريق محكمة العدل الدولية، أو المحكمة الجنائية الدولية، أو غيرها من المحاكم الدولية والمحلية.
ولعل الضغوط التي مورست على جنوب أفريقيا والعقوبات على المحكمة الجنائية الدولية وموظفيها- الذين يعملون على جلب قادة الاحتلال للمحكمة لتورطهم في الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني- مؤشرٌ مهم على ذلك.
الشواهد هذه مجتمعة تقودنا إلى خلاصة، بأن الولايات المتحدة الأميركية هي طرف مركزي في هذا العدوان على الشعب الفلسطيني، بل وعلى المنطقة، تهدف من خلاله إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يخدم الهيمنة الأميركية من جهة، وبما يضمن دورًا مركزيًا للاحتلال في هذه الهيمنة من جهة أخرى.
وتبدو الحروب في الشرق الأوسط أنها عملية إعادة إنتاج لهذه الهيمنة، وتأكيد على أنها القوة العالمية الوحيدة التي تتفرد، دون غيرها، بالتدخل في قضايا الشرق الأوسط والعالمَين: العربي والإسلامي، كما تهدف أيضًا إلى إعادة إنتاج إسرائيل بوصفها أداة استعمارية إمبريالية فعالة وباطشة في المنطقة، وبما يخدم الهيمنة الأميركية لعقود قادمة.
هذه القراءة توجب عدم الثقة بتاتًا بالرعاية الأميركية للمفاوضات، وتدعو لضرورة العمل الجاد والبحث الفلسطيني المستمر عن بدائل ووسطاء مختلفين، وضرورة توفير دعم عربي وإسلامي حقيقي وفاعل للفلسطينيين للإفلات من قبضة وهيمنة الوساطة والرعاية الأميركية، ذلك أن الخطر الناجم عن هذه الرعاية والهيمنة لا يتهدد الفلسطينيين وحدهم، بل يمتد إلى كامل المنطقة، ولعل ما يحدث في العديد من دول المنطقة، شاهدٌ أكيد على ذلك.
إن لدى العرب والمسلمين الكثير مما يمكن أن يقوموا به، ولكن ذلك يتطلب ابتداءً إدراكًا وإقرارًا بحجم الخطر المستقبلي الذي يتهدد هذه الدول وهذه المنطقة لكي يتم التحرك استنادًا إلى هذا الإدراك.
فإذا ما أقرت الدول العربية والإسلامية بأن مصالحها الإستراتيجية وأمنها القومي ومستقبلها محل خطر ومهدد، يمكن أن تتحرك بشكل جماعي للحد من الآثار الكارثية المتوقعة نتيجة السياسات الأميركية، سواء على القضية الفلسطينية، أو على دول وشعوب المنطقة.