كورونا ومنهج إصلاح المجتمع – عبد المجيد بنمسعود
جاءت كورونا على قدر مقدور، لتحدث انقلابا هائلا في دنيا الناس، طال كل الجوانب والمجالات، وفرض على كل من له وعي وإحساس، وقدرة على التفاعل السليم مع ما يجد من وقائع وأحداث- وبالخصوص ما كان يحمل منها طابع العموم والشمول، وطابع القوة والنفاذ، والقدرة على فرض تحولات لا محيد عنها ولا محيص- مراجعة النظر في المشهد الوجودي العام، وإعادة طرح الأسئلة الكبرى، حول ما يتعلق بمفاصل ذلك المشهد، سواء ما كان من تلك الأسئلة ذا صبغة نظرية، أو ما كان منها ذا طابع تطبيقي عملي، أو علائقي، في جميع مستوياته ودوائره.
إن الحملة التي جيشتها كورونا، بما لها من سطوة ومهابة، وبما لها من آليات شديدة التنوع والغرابة، وقدرة على التسلل والمباغتة، وقدرة على التموقع في النقطة التي تريد، تحت أي خط من خطوط العرض والطول، غير متأثرة لا ببحر ولا ببر، ولا بحر ولا بقر، ولا عابئة، بأي لقب من الألقاب الفجة التي درجت على ألسنة عوام الناس ودهمائهم، كتلك التي ميزوا بموجبها بين دول عظمى، وأخرى صغرى، أو بين صناعية متقدمة، وأخرى نامية أو متخلفة، أو في طريق النمو، أو بين دول الشمال ودول الجنوب، أو بين دول المركز ودول المحيط، وقس على ذلك جميع التسميات والألقاب التي شكلت قوام جهاز أو قاموس مصطلحي، ظل يشكل أساسا للتصنيف والتعامل اللامتكافئ، بين دول ومجتمعات متحكمة متسلطة باغية، وبين دول ومجتمعات خانعة مبغي عليها، وظلت نتائجه في ميدان العلاقات بين طرفي المشهد، تمثل إفرازا بغيضا للظلم والفجور، والقهر والإذلال، والبؤس والحرمان، في الطرف المستضعف الخانع، وتمثل إفرازا شنيعا ومشينا للترف والتبجح والاستعلاء،في الطرف المتسلط الباغي. أو بالتعبير القرآني البليغ: بين الذين استكبروا واتبعوا( برفع التاء المشددة، وكسر الباء)، وبين الذين استضعفوا واتبعوا( بفتح التاء المشددة، وفتح الباء).
إن كورونا بكل زخمها الهائل، وبكل ما خلفته من جراح، وبكل ما أحدثته من تغيير في خريطة العالم، وبكل ما نسجته من خيوط، وخطته من خطوط، تمهيدا لرسم معالم تلك الخريطة في أفقها المستقبلي الموعود، قد شكلت- بحق – مدرسة حرة ورائدة في الإعداد والتشكيل، وفي التربية والتهذيب، وفي الجمع والتقريب.
فأما الإعداد والتشكيل، فبما وفرته من شروط نفسية وفكرية لإعداد فئات عريضة من الناس، في مختلف الشرائح والأعمار، بل وحتى الطبقات، وفي مختلف الأوطان والبلدان، ممن هم مرشحون لاحتضان ما ألقته كورونا من رسائل، لا تخلو في كثير من ملامحها من زجر وغلظة.
وأما التربية والتهذيب، فمن خلال ما أرسلته من دروس وعظات، وما صقلته من مواهب، وأخرجته من طاقات. ألم تر أنها قد أزاحت بعض الأنقاض التي كانت تثقل كاهل المساواة؟ وأفسحت لها المجال لتعبر عن بعض مكارمها، وتعرض بعض محاسنها، عسى أن تجد من يوفر لها- مستقبلا – مزيدا من الشروط، لتوطيد دعائمها في الأرض، ونشر أجنحتها على من طالتهم سحابة القهر والكرب والتمييز.
ألم تر إلى كورونا وهي تهش بعصاها على جموع التائهين المتفرقين في شعاب المصالح الضيقة، والأهواء الزائغة، لتردهم طوعا أو كرها إلى ركب التوحد والاجتماع على الخير، وخدمة المصلحة العليا للوطن؟
ألم تر إليها وهي تفرغ مبيداتها على كثير من الصفات البغيضة التي لوثت ساحة الوجود الإنساني، وسممت العلاقات بين الناس، وأحالت حياتهم إلى جحيم لا يطاق، وذلك من قبيل الكبر والغرور، والتبختر والاستعلاء، والجشع والاستئثار، وغيرها، مما تسبب في تجفيف منابع السعادة والسلام والوئام، عسى أن يتعظ كثير ممن يحملون تلك الصفات، ويستبدلون بها أضدادها من تواضع وقناعة وإيثار، ونزوع إلى تنمية خميرة الخير والصلاح والإصلاح.
وأما الجمع والتقريب، فبفضل ما زرعته كورونا من بذور صالحة لتقريب الرؤى والمفاهيم، بين سكان العالم، على اختلاف أعراقهم، ومللهم وأديانهم، خاصة منهم من ليسوا واقعين تحت طائلة العقد النفسية، والعوائق الفكرية، والأوضاع المادية، التي من شأنها أن تحجب عنهم الحقائق، وتمنعهم من التفاعل الذكي مع دعوات البناء والإصلاح.
وسأتخذ المغرب نموذجا تطبيقيا لما أحدثته كورونا من تغيرات وآثار، ولما وفرته من شروط مادية ونفسية للتأمل والاعتبار، ولما اختزنته في سلوكها وإيحاءاتها من إشارات بينة، وإرهاصات واعدة، لما يمكن أن ينجزه المجتمع بجميع مكوناته من أعمال جليلة، ومآثر عظيمة، على مستوى التطوير والإصلاح.
لقد حطت كورونا بكل ثقلها على غير ميعاد في الصعيد الواسع، وجندت كل ما لديها من دينامية للعمل والإنجاز، ومن تصميم على تنفيذ ما وكل إليها من وظائف ومهام، دون أدنى تلكؤ أو تذبذب، ولا زبونية ولا انحياز، لقد مارست كل صلاحياتها في التوسع والانتشار، عن طريق تمشيط كاسح لربوع الوطن، وفر كامل التغطية، التي لم تستثن من كثافتها إلا بعض النقاط القليلة، في ظاهرة تحتاج إلى دراسة وتحليل وتعليل، للوقوف على ما يمكن الوقوف عليه من خصوصيات وأسباب، فالطابع العام في سلوك كورونا هو العدالة والمساواة.
والحق أن استجابة الساكنة إزاء التحدي الصاخب الذي فرض عليها بليل أو نهار، كان على جانب محمود من الحزم واليقظة، بعد التجاوز السريع نسبيا للحظة الدهشة والانبهار، فسرعان ما نهضت قوى الشعب، بمختلف فرق التدخل، الطبي، والأمني بجميع شعبه، سواء منه الحمائي، والغذائي، والتربوي التعليمي، وما إلى ذلك مما يتقوم به وجود المجتمع وبقاؤه. فتحقق عبر جهود شاقة مضنية، وتكاتف وتضامن بين كل تلك الفرق، وبين كل مكونات المجتمع، ملحمة رائعة، ولوحة متناسقة الخطوط والألوان، وسمفونية متناسبة الأنغام والألحان. لقد احتدم التشابك والتلاحم، واشتد الصراع، ولم يمنع ذلك من تبادل التقدير والاحترام بين الطرفين في الأغلب الأعم، وفق سنن التدافع وقواعده السارية. واستماتت القوى الفاعلة والحية أيما استماتة، وبلغ منها الجهد مبلغه، وسقط ضحايا في خضم ذلك، ولكن ليس بالهول ولا الفداحة اللذين طبعا حالة الضحايا في بقاع أخرى من الأرض، أثخنت فيهم كورونا الجراح، ومزقتهم كل ممزق، غير آبهة بما يتبجح به القوم من تطور تقني، وامتلاك مزعوم لناصية العلم، وتحكم في أسرار الأدوية والأدواء.
وخارت قوى ألوف كثيرة تحت ضربات الوباء، وتلقفتهم مراكز العلاج والاستشفاء، بما في الاستطاعة من العناية والرعاية، من أجل إعادتهم، بإذن الله إلى حالة الصحة والاستواء، وتحريرهم من ربقة الداء، وطائلة البلاء.
وفي خضم هذا التدافع والصراع، الذي تكبد فيه البلد خسائر فادحة، على صعيد الأموال والثمرات، وحتى الأنفس التي قضى بعض منها، وعانى الكثيرون من وطأة المرض والاعتلال، وآلام الغربة ما الله به عليم، في هذا الخضم المرير، بدأ أفراد الشعب- من خلال مواكبتهم اليومية للحالة الوبائية في البلاد- يكتسبون معلومات جديدة عن علم الفيروسات والأوبئة، يتلقونها مباشرة من أفواه الأطباء والخبراء العارفين، الذين لم يكن للشعب معرفة بهم في السابق. وتعلقت تلك المعلومات الأولية، ببعض تجليات المرض وتمظهراته، وبالأسرة الكبرى التي ينتمي إليها كوفيد19، وهي أسرة الفيروسات التاجية، وتميزه من بينها بخصائص فريدة، وما رشح من التحليلات التي تتعلق بطبيعته الجينية، فضلا عن الحشد الهائل من التحليلات المتعلقة بسيناريوهات ظهوره وانتشاره عبر العالم، بسرعة مذهلة، أوقعت المختصين في حيرة طاغية، وما اكتنف ذلك من توظيف سياسي للجائحة – تراوحت تجلياته بين الحدة والخفوت – من طرف القوى المتنفذة المعلومة في العالم.
ومما تعرف عليه عامة الشعب، مصطلحات عدة، منها: مؤشر الانتشار، والحالة الوبائية، ونسبة الفتك، وطريقة حساب هذه النسبة، والبؤر الوبائية، والحجر الصحي، والتمييز في الإصابات بين العادية والصعبة والحرجة، واختبارات التشخيص بأنواعها، تبعا للوسائل المستخدمة، وطبيعة التشخيص في حد ذاته، من حيث كونه مبكرا أو متراخى فيه، وأهمية التعجيل بالشروع في بروتوكول العلاج، دون أن ننسى الجدل الدائر حول دواء الكلوروكين، ومدى نجاعته، أو صلاحيته، وغير ذلك مما شكل رافدا مفيدا من روافد الثقافة العلمية، ولو في مظهرها البسيط، مما يحسن معرفته وعدم الجهل به، في سياق الوعي العام بطبيعة الوباء، بما يساهم في نجاح التصدي له وفق مقاربة جماعية قائمة على التكامل، ومشاركة الجميع.
إن مما يمكن أن يسجله كل ملاحظ حصيف، عايش ملحمة هذا الفيروس الغريب، وتابع آثاره النفسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والحضارية، أنه في مقابل الخسائر التي تكبدها الشعب جراء انتشاره في ربوع المملكة، فإن الشعب ومن هم مسئولون عن أمنه وازدهاره، يمكنهم، شريطة الفهم وحسن الاعتبار، أن يجنوا منه فوائد جمة على مستوى السلوك، وعلى مستوى تدبير شؤون البلاد والعباد، ليكون الجميع في وضعية آمنة، وبعيدا عن عوامل الضعف والتلف، و التسوس والتآكل والانهيار.
لقد تبين من خلال تتبع الحالة الوبائية في البلاد، ومن خلال الشروح التي دأب على تقديمها الخبراء المختصون للشعب بشكل يومي، أن الأمل كان معقودا – من خلال الجهود المبذولة، في سباق محموم مع الزمن، من أجل ربح الرهان- على انخفاض المؤشر الوبائي المتعلق بالتكاثر، وانخفاض نسبة الفتك، حتى تعود البلاد إلى وضعها الطبيعي، وهو وضع السلامة من الوباء، والتعافي والشفاء الكامل منه بإذن الله ورحمته وتوفيقه.
ويرمز إلى “عامل التكاثر الأساسي، ب «R0» الذي يستخدمه الأخصائيون والباحثون كثيرا في علم الأمراض المعدية والأوبئة، للتعبير عن مجموع الحالات المصابة حديثا، والتي انتقل إليها الفيروس من مصاب واحد. ولحساب عامل التكاثر نقوم بقسمة عدد المصابين الجدد على عدد الحالات المسجلة سابقا.
ولنفترض أن عدد الإصابات الجديدة خلال 24 ساعة هو 10 وعدد الحالات الأصلية هو 5، يكون عامل التكاثر الأساسي هو 10 مقسومة على 5 والناتج هو قيمة المؤشر R0 والذي يساوي 2، ومنه فإن كل شخص في هذه الحالة سيكون قادرا على إصابة شخصين آخرين بالفيروس خلال يوم واحد”.( جريدة أمزان24 الإلكترونية).
أما نسبة الفتك فهي نسبة الذين هلكوا بسبب الفيروس، إلى عدد من أصيبوا به، وكلما ازدادت تلك النسبة في الانخفاض، كان ذلك مؤشرا على ازدياد تحسن الحالة الوبائية، ومن ثم، نزوعها نحو التعافي المتدرج، إلى أن نصل إلى التعافي التام.
إن مما يجدر بالعقلاء استخلاصه والانتفاع به، في سياق عملية الاعتبار، بتجربة كورونا القاسية والمضنية- بالإضافة إلى استصحاب روح التجنيد العالية التي طبعت بميسمها كل الأجهزة التي أطرت مواجهة الوباء، تخطيطا وتنفيذا ومتابعة، بحسب الوسع، وفي إطار ما هو متاح من الإمكانات- استلهام الرؤية والفلسفة ومقاربة التدبير التي اعتمدت في مواجهة الوباء، كمنهجية عامة في التعامل مع مختلف الأمراض والأوبئة التي تعتري جسم الوطن، وتنخر عظامه ومفاصله، وأقصد هنا الأوبئة والأمراض بمفهومها الواسع، أي بما فيها ما كان ذا صبغة تصورية روحية أخلاقية، تتعلق بالعقائد والأفكار والقيم، التي تشكل قوام الشخصية باعتبارها بناء متكاملا وكيانا موحدا منسجما.
وعلى هذا الأساس، فإن جهودا ضخمة ينبغي أن تبذل، قد تكون أضعافا مضاعفة للجهود التي صرفت في مواجهة كورونا، مما يحتاج صناديق أوسع وأغنى، وإلى فرق من الخبراء والحكماء، ، ومن المؤطرين والمخططين، ومن العلماء والمربين ومن المستشارين والمصاحبين، ومن كل من لهم دراية بخبايا النفس والمجتمع، مما له علاقة بسنن بناء النفوس وتشكيلها، وسبل تقويمها وإصلاحها، وبأسس العمران وقواعده.
ذلك بأنه رغم ما جلبه وباء كورونا معه من المصائب والنكبات، ذات الوطأة الشديدة والأثر البليغ على الأفراد والأسر والمجتمع، فإنه يظل، نسبيا، محدودا في الزمن، وقابلا للتجاوز، في أمد زمني معقول، وذلك في مقابل الأمراض البنيوية ذات التعقيد الشديد، التي تغرز مخالبها في عمق الإنسان، وصميم المجتمع، وتحتاج – لعلاجها- إلى همم أعلى، وخبرة أوسع، ونفس أطول بكثير مما يحتاج إليه لمحاربة وباء من قبيل كورونا، لسبب جوهري واضح للعارفين، هو الاختلاف الكبير في الطبيعة، بين كل من الوباء الفيروسي الحيوي، والوباء الأخلاقي المعنوي، الذي تتعدد مظاهره وأذرعه وامتداداته.
فإذا كانت الخسائر والضحايا التي يخلفها وباء كورونا تتعلق بزهوق جملة من الأرواح البشرية، تدرج المسلمة منها في عداد الشهداء، وبأعطاب وثغرات في حركة التجارة والاقتصاد، وعلى مستوى المعاش بشكل عام،فإن الخسائر والضحايا التي تخلفها الأمراض المعنوية والأخلاقية، توشك أن تأتي على المجتمع بأكمله، من خلال تحطيم مناعته، وهدم مقومات اطراد حركته واستمراره في البقاء.
ومن ثم، فإنه من الواضح والجلي لأولي الألباب، أن عملية إصلاح المجتمع، والحفاظ عليه قويا متماسكا، أو توفير الشروط النفسية والاجتماعية والثقافية لتحقيق ذلك، حالة ضعفه وتلاشيه، تحتاج إلى عمل دءوب، ويقظة كاملة، وعلم شامل، وميزان دقيق، وحس مرهف، وإلى قدرة هائلة للثبات، والمرابطة في الثغور، تنبثق من إيمان جازم بالجدارة والأحقية، وسلامة الفكرة، وعدالة القضية، في معترك التنازع بين المذاهب والأفكار.
انطلاقا من التصور أعلاه، فإن إغلاق الحدود بأنواعها (البرية والبحرية والجوية)، في وجه أي تهديد مفترض بانتشار فيروس كورونا، أو ما في حكمه من الفيروسات المادية الخطيرة، يكون أمرا ضروريا ومشروعا، وعملا بطوليا، يعكس مستوى لائقا للرشد واليقظة. غير أن غفلة نفس المجتمع عن القيام بالواجب الحضاري في درء جميع أشكال الأوبئة المعنوية، سواء كانت نابعة من الداخل، أو وافدة من الخارج أو من وراء البحار كما يقال، تعتبر خطأ فادحا، وجرما شنيعا، وتفريطا مذموما في حق المجتمع في أن يعيش في إطار هويته الأصيلة، مصونا من كل ما يخدش تلك الهوية، أو ينال من أي مقوم من مقوماتها، أو مبدأ من مبادئها.
إن هذا التصور الرشيد والمنظور الأصيل، الذي يوجهنا في سياق هذه الموازنة وهذا التحليل، يفرض على قوى المجتمع وفعالياته أن تعمل وفق استراتيجية شاملة، وبرمجة دقيقة، وأن يحدد الخريطة الجينية للمجتمع، مع حرص شديد على تحديد الجينات المصابة منها، وعلى ملاحقة جميع البؤر التي تحمل الوباء أو تحتضنه، أينما كانت، وتعمل على إخضاعها لبروتوكولات ناجعة للعلاج، تماما، كما فعلت وتفعل السلطات المختصة في ملاحقة بؤر كورونا في الأسر والوحدات الصناعية، وغيرها، بهمة عالية، وبكامل المسئولية.
وإن هذه العملية الكبرى، لن تتخذ طابعها الجاد، في حمل الأمانة بكل قوة واقتدار، إلا في ضوء نتائج تشخيص دقيق واسع النطاق، يحدد مواطن الخلل ومكامن الداء، ويضع “بروتوكول” العلاج والدواء، وما يحتاجه ذلك من تحديد مراحله وجرعاته، ونوعية الفاعلين والمتدخلين، المؤهلين للنجاح في هذه العملية الكبرى.
وإذا كان المقال يتضح بالمثال، كما يقال، فإن مما يضمن النجاح والأصالة والمصداقية للبروتوكول العلاجي لأدواء المجتمع المعنوية، بعد النجاعة في عملية التشخيص، هو الاستقلالية في القرار، وفي الاختيار، والتي بوجبها، يكون المشرفون على العملية في حل من الخضوع لأي إملاء أو إيحاء، من قبل أي جهة من الجهات، أو الانسياق وراء أي ولاء، إلا الولاء للدين والوطن، وللمخلصين لهذا الوطن.
إن منظومتنا وسلطاتنا الصحية، عندما استقر اختيارها على مادة الكلوروكين لعلاج مرض كورونا، غير آبهة ببعض الأصوات الخارجية التي نادت بإيقافه، عبرت عن استقلالية مشرفة، وجديرة بالاحترام. وإن نفس الموقف الاستقلالي في القرار والاختيار، ينبغي أن يتحلى به المسئولون عن رسم وتنفيذ استراتيجية إصلاح المجتمع.
هذا على مستوى التخطيط والتنفيذ، من حيث البناء والبرمجة وتحديد المراحل، أما على مستوى مباشرة التنفيذ، فإنه ينبغي أن يتميز بالمبادرة وعدم التسويف، تجنبا لمزيد من استفحال الأمراض وتفاقمها، مع الحرص عل استمرار العلاج، وتلافي أي توقف في منتصف الطريق أو قبله، تجنبا لضياع الجهود، وحبوط الأعمال.
فإذا نحن أعطينا أمثلة على الأمراض والأوبئة السارية والمتفشية في المجتمع من قبيل انتشار الخمور والمخدرات بجميع أنواعها، فإنه لا يسعنا إلا أن نشعر ببالغ الألم والأسى لما تسقطه هذه السموم الناقعة من ضحايا، وما يتجرعه الأفراد والأسر والمجتمع العام، جراء استيطانها بين ظهرانيهم من المحن والويلات، ومن المآسي والنكبات. وفضلا عن توفير التغطية القانونية لحضور بعض تلك السموم، تحت ذريعة توفيرها للأجانب المقيمين في الوطن، فإن الفشل الذريع في إيقاف زحف العصابات الإجرامية المتاجرة في الخمور والمخدرات، رغم نجاح الجهود الكبيرة التي تبذلها الفرق الأمنية في إحباط كثير من المحاولات، وإلقاء القبض على أصحابها، ليسائل الإخفاق الذريع للمقاربة القانونية المتبعة في التعامل مع تلك العصابات النكدة، بدليل عدم النجاح في إيقاف زحفها البغيض كما سبقت الإشارة، فالبؤر متناسلة متكاثرة، على مستوى عصابات الترويج الشقية، كما على مستوى التعاطي لتلك السموم القاتلة.
وقس على هذا بؤر الفساد والإفساد المتعلقة بانتهاك الأعراض، على اختلاف أشكالها، التي تؤرق الأسر والمجتمع العام، وما فجائع اغتصاب القاصرين التي أصبحت قصصها الدامية مادة شبه قارة في صفحات الجرائد اليومية، وغيرها من أشكال الانتهاك عنا بغائبة، فقد أصبحت الطفولة البريئة معرضة لنهش الكلاب الآدمية المسعورة التي لا يزيدها غياب الردع إلا تأججا وسعارا.
أما البؤر الخاصة بانتشار الفيروسات المتخصصة بقرض المال العام في جميع أشكاله، فإن الجرذان التي تمارس ذلك بكل تبجح واحتيال، وبكل صلف واختيال، تظل هي الأخرى مستمرة في ممارسة لعبتها القذرة رغم أنف المجتمع، ورغم ما تسببه تلك الممارسة من إتلاف ما يشكل عصبا حيويا لمعاش الناس، ومن عرقلة لعجلة الاقتصاد في البلاد.
أما البؤر الملوثة المتعلقة بروافد الوعي من ثقافة وتعليم وإعلام، فحدث ولا حرج، فإن غياب استراتيجية هادفة لترشيد هذه الميادين ذات الحيوية المركزية، يعرضها لمزيد من التلوث، مما يلقي بظلاله السوداء على مستوى الوعي العام الذي يشكل عماد أي نهضة منشودة، بسبب ما يورثه ذلك التلوث من استلاب وفوضى ثقافية وفكرية، تعبر عن نفسها في مظاهر صارخة من المرض والشذوذ، تنتهي بإقصاء قطاع واسع من الناس عن دورة الحياة والبناء، ينضاف إلى القطاعات التي خرجت من نافذة الجرائم الموصوفة المتعلقة بكليات النفس والعرض والمال.
أما داهية الدواهي فهي تكاثر البؤر المضادة للدين، والمستهترة بأهله، والتي تتخذ لها أشكالا متنوعة من التغطية، كالحداثة وحرية الفكر والتعبير، وحرية اختيار الدين، والمساواة، والحق في مراجعة الثوابت والمسلمات، وما إلى ذلك، مما وجد في إرخاء العنان، عن طريق غض الطرف عن المشاغبين، متكأ للتمادي في الغي، وفي مزيد من المساس بمقدسات الدين الإسلامي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، عدم تحديد آليات لحماية الملة والدين، من خلال رسم حدود حماه بشكل واضح، لا يترك أدنى مجال لأي متمحل لعذر من الأعذار، ولا يعطي لأي متذرع بذريعة عدم الفهم أي اعتبار.
إن أي شعب حي، وأي دولة حية، لا بد أن يعبرا عن حياتهما وحيويتهما، بل وعبقريتهما وتميزهما بين الشعوب والدول، من خلال الاستثمار الجيد، وإلى أقصى حد ممكن، لما يكتنفهما من أوضاع، وما يجرى أمامهما من أحداث وتفاعلات، وأزمات ونازلات، وصولا إلى استخلاص الدروس والعبر، التي تعين على ضبط خطوط ومسارات خارطة السير، في اتجاه تدارك ما فات، وإنجاز ما هو آت.
ومن هذا المنطلق، فإن كورونا أخرجت كثيرا مما في جعبتها مما يقدم خدمة سخية وثمينة في هذا المقام، فقد قدمت للمجتمع بجميع شرائحه، حكاما ومحكومين، عوام وعلماء، رجالا ونساء، معلمين ومتعلمين، صغارا وكبارا، علامات على الطريق، وقواعد لمنهج التواصل، والتعامل مع المصائب والملمات، وقدمت للمسؤولين على وجه الخصوص، شفرة مليئة بأسرار فهم حقيقة الوجود على هذه الأرض، وموازين القوى فيها، ومكامن الضعف ومكامن القوة، وكشفت لهم النقاب عن كثير من المغالطات والأوهام، ومعايير التفريق بين صادقات الرؤى، وبين ما هو من قبيل أضغاث الأحلام.
ومن الأكيد أن الإنصات الهادئ والعميق لدروس كورونا، لا بد أن يحيل النابهين وأولي النهى والألباب، إلى آي الكتاب، لتدبر ما أنزله رب الأرباب، ففيه:
يقول الله تعالى:” فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ ۖ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ” ( يونس:81).
وقال تعالى: “فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ” (فصلت: 15).
ويقول الله تعالى:” وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ” ( الصافات: 171 – 173).
ويقول سبحانه وتعالى:” وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ” ( القصص: 5 و 6).
خاتمة: إن متقضيات الرشد عند الشعب المغربي، وعند أولياء الأمر فيه، لتربأ بهم، أن يخوضوا تجربة فذة من التفاعل العاصف والمرير، تحملوا فيها كثيرا من المعاناة والجراح، وتكبدوا كثيرا من التضحيات والمعاناة، ثم يعودوا بخفي حنين، أو خاويي الوفاض، أو صفر الأيدي كما يقول البلغاء، وإن المعول على رحمة الله وتوفيقه، أن يلهم المغاربة ملكا وشعبا، وعلماء وحكماء، ومعلمين ومربين، وسائر شرائح الفاعلين، أن يعضوا بالنواجذ على ما قدمته كورونا من عبر وعظات، وما نمته في الجميع من استعدادات ومهارات.
” وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ” ( يوسف :21).