قانون “الإصلاح القضائي” يفتح الباب للهجرة العكسية من الكيان “الإسرائيلي”
بعد نحو ساعة فقط من إقرار برلمان الاحتلال “الإسرائيلي” قانونا للحد من إشراف المحكمة العُليا على الحكومة، انضم نحو ثلاثة آلاف طبيب إلى مجموعة استشارة عبر تطبيق واتسآب تساعد الساعين للانتقال خارج الكيان “الإسرائيلي”. وقد بلغت نسبة المُنضمين إلى مجموعة أطباء من أجل الانتقال نحو 10% من مجموع الأطباء العاملين في إسرائيل، التي تعاني أصلا من نقص في عدد الأطباء.
وبمجرد عودتهم من المشاركة في الاحتجاج على قانون الإصلاح القضائي، الذي يضع سلطة شبه مُطلقة في يد الحكومة، ويعده الأطباء ضارا بقطاع الصحة العامة، أخذوا يتبادلون المعلومات مع الشركات المختصة حول وجهات الهجرة الموصى بها للأطباء، ومتطلبات الترخيص وظروف العمل.
أتت تلك الضربة للحكومة من فئة الأطباء الإسرائيليين الذين يتمتعون برواتب مرتفعة وحوافز لا يتمتع بها كثيرون غيرهم، بالتزامن مع موجة تحرُّكات اتسع نطاقها في الكيان “الإسرائيلي”، وتتعلق بخطط خروج جدية من دولة الاحتلال، تشمل تحويل الأموال إلى الخارج، والتقدم بطلبات الحصول على جنسيات أخرى، وخروج الشركات الاستثمارية خاصة في مجال التكنولوجيا المتطورة، وغير ذلك.
وعلى مدار سنوات عملهم الثمانين، لم يشهد موظفو شركة “أوشن للانتقال” الكائنة في الأراضي المحتلة، التي تعمل في مجال مساعدة الناس على الهجرة، هذا الكمّ من ضغوطات العمل مثلما شهدوه في الأشهر والأسابيع الماضية.
فأُسوة بالعاملين في الشركات التي تقدم خدماتها لمَن يريد المغادرة ، بات موظفو “أوشن” غارقين في مهام شرح كيفية نقل الأصول المالية من الكيان “الإسرائيلي” إلى الخارج، وإنشاء حسابات مصرفية في أوروبا والولايات المتحدة، وشراء العقارات خارج دولة الاحتلال.
بدأت الموجة الأولى من العمل المكثف في شهر فبراير الماضي عندما وصلت الاحتجاجات على قانون الإصلاحات القضائية إلى ذروتها، ثم شهدت الأشهر الثلاثة الأخيرة موجة أخرى من طلبات تحويل الأموال.
وقد أخذت مجموعات واتسآب المُخصَّصة لتبادل المعلومات حول إعادة التوطين تعج بالأعضاء الجُدد، لا سيَّما ممن تتراوح أعمارهم من الثلاثينيات إلى الأربعينيات، ومن أصحاب المهارات والشهادات الجامعية، ومنهم الأطباء والعلماء والأساتذة والمُبرمجون، حيث يسعى بعض هؤلاء لتنسيق الهجرة معا حتى يتمكنوا من تشكيل “كيبوتسات” خاصة بهم في البلدان التي سيهاجرون إليها.
يقول “شاي أوبازانيك”، كبير المسؤولين التنفيذيين في شركة “أوشن”، إن ما يميز هذه الفترة بالذات هو أن التوازن قد تغيَّر، فقد كانت النِّسَب دائما متقاربة، فنصف زبائننا إسرائيليون يغادرون، والنصف الآخر إسرائيليون يرغبون في العودة، أما الآن فقد صارت نسبة العازمين على الرحيل 90%، في حين انخفضت نسبة طلبات العودة إلى 10%، وهذا تغيير جذري.
لفهم هذا الواقع، يمكننا النظر مثلا إلى “كو فا نغان”، وهي جزيرة تايلاندية تشكَّل فيها مجتمع يهودي إسرائيلي صغير يضم كنيسا يديره حاخام أتى برفقة عائلته، ومطعم كوشير يبيع أطعمة تصل بحاويات من دولة الاحتلال، كما تقيم الجزيرة الاحتفال بعيد الفصح بمشاركة مئات الإسرائيليين.
خلال الشهور الماضية، انتقل ما لا يقل عن 100 عائلة إسرائيلية إلى “كو فا نغان”، معظمهم من أبناء الطبقة الوسطى، الذين تتراوح وظائفهم من مدربي اليوغا وحتى رجال الأعمال، وبدأوا الاندماج في الحياة والاستثمار والتجارة بفضل استعانة العديد منهم بالشركات المتخصصة في شراء العقارات والهجرة مثل “أوشن” وأخواتها، وذلك بعدما قرر الكثيرون منهم بيع منازلهم داخل دولة الاحتلال وشراء منازل في قبرص واليونان وتايلاند وغيرها من الدول.
العاصمة اليونانية أثينا أيضا، كان لها نصيب من الهجرة الإسرائيلية، حيث نشطت فيها الاستثمارات العقارية الإسرائيلية أثناء جائحة كورونا، كما ارتفعت مؤخرًا بعد اضطراب الوضع السياسي.
فقد أقبل الإسرائيليون على شراء العقارات في أثينا نتيجة انخفاض أسعارها نسبيا وجودة الحياة في اليونان، العضو في الاتحاد الأوروبي.
كما يشجع برنامج التأشيرة الذهبية في البلاد قدوم المستثمرين عبر منح إقامة دائمة للمقيمين غير الأوروبيين الذين يستثمرون ما لا يقل عن 250,000 يورو. ويقول “عاصي دورون”، وكيل عقارات إسرائيلي المولد ومقره أثينا: “إنني أتلقَّى عشرات المكالمات والرسائل على وسائل التواصل الاجتماعي. لقد أصبح الطلب مرتفعًا لدرجة أني أواجه الآن صعوبة في العثور على أماكن إقامة كافية للعملاء لاستئجارها أو شرائها في أثينا.
وينشغل الراغبون في الفرار من دولة الاحتلال أيضا بأخبار الدول التي يمكن الحصول على جنسيتها بسهولة، ويتابعون تفاصيل الإجراءات مثل كيفية التقديم للسلطات المسؤولة والفحوصات الطبية وآلية الانتقال مع العائلة، وكذلك آلية نقل جنسية أجنبية يحملها أحد الآباء إلى الأبناء، ومعرفة تكاليف التقدم للحصول على الجنسية، وغير ذلك من تفاصيل.
وفي الفترة الأخيرة، رصدت وسائل الإعلام العبرية بيانات لا تكشفها عادة سلطة السكان والهجرة الإسرائيلية حول عدد طلبات الجنسية الأجنبية وحيازة جواز سفر ثانٍ بين المستوطنين، وماهية الدول المُفضلة بوصفها وِجهة لديهم. ووفقا لهذه البيانات، بدأ عدد ضخم من الإسرائيليين بالفعل عملية الانتقال إلى إسبانيا والبرتغال والولايات المتحدة، وحتى ألمانيا.
بالنسبة للبرتغال، فهي خيار جذاب بسبب قانون صدر عام 2015 وسهَّل عملية الحصول على الجنسية للأشخاص الذين طُرِد أسلافهم أو غادروا البلاد طواعية في القرن الخامس عشر أو بعد ذلك، وكل ما يحتاج إليه مُقدم الطلب إظهار ما يربطه بيهود البرتغال من خلال قاعدة بيانات لأسماء العائلات المعروف عنها أنها يهودية أو شهادة هجرة، كما يمكن للأشخاص المستعدين للاستثمار في البرتغال الحصول على تأشيرة تُستخدم بعد خمس سنوات للحصول على الجنسية.
ألمانيا أيضا وِجهة مفضلة، إذ تمنح الحكومة الألمانية الجنسية استنادا إلى تاريخ العائلة اليهودية، حيث يمكن لأحفاد الناجين من الهولوكوست الحصول على الجنسية، كما أن العائلة الإسرائيلية التي تثبت أصولها اليهودية تصبح جميع فروعها مؤهلة للحصول على الجنسية، بل وقبل عام ونصف أقرَّت برلين مبادرة لتسهيل القانون الألماني لليهود، وهي مبادرة أتاحت لعائلات يهودية لم تكن قادرة في السابق على نيل الجنسية أن تنالها اليوم بعد تخفيف الشروط.
وتبقى بريطانيا كذلك وجهة محببة لهجرة الإسرائيليين لعدة اعتبارات، أولها قُربها الجغرافي من بين الدول الناطقة بالإنجليزية من دولة الاحتلال، وترحيبها بالعاملين في مجال التكنولوجيا المتطورة، وهؤلاء يستفيدون من برنامج تأشيرة “المواهب العالمية” الذي يسمح لهم بالانتقال حتى قبل أن يكون لديهم عقد عمل في أيديهم.
أما إسبانيا التي تُذكِّر بنمط الحياة في الأراضي المحتلة من حيث نوعية المعيشة والمناظر الطبيعية والشواطئ والطعام كما يدّعي إسرائيليون كُثُر، فهي من أهم الدول التي تتلقى شركات الهجرة استفسارات حول اللجوء إليها. ومن بين هؤلاء المُستفسرين يقرر ما بين 50-80% اتخاذ خطوة الهجرة بالفعل.
ويقول “ليون أميراس”، محامٍ أرجنتيني المولد يساعد الإسرائيليين الذين يحاولون الحصول على جوازات سفر أوروبية: “رغم أن القوانين التي تمنح الجنسية لليهود بناء على أصولهم لم تعد سارية المفعول في العديد من الدول، فإن لديَّ أشخاصا يأتون إليَّ قائلين إنهم على استعداد لدفع ثلاثة أضعاف الرسوم العادية إذا كانت هناك فرصة ضئيلة لبقائهم مؤهلين”.
تُعَدُّ التكنولوجيا أحد أكثر المجالات الجاذبة للمستثمرين الأجانب في دولة الاحتلال، إذ تأتي 90% من الاستثمارات في التكنولوجيا المتطورة من الخارج، ويتيح ذلك لتل أبيب أن تجمع نحو 50 مليار شيكل (13.5 مليار دولار) سنويًّا من هذا القطاع.
بيد أنه منذ اللحظات الأولى لعودة نتنياهو على رأس الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، وضع مسؤولو قطاع التكنولوجيا أياديهم على قلوبهم جراء الإجراءات التشريعية للحكومة الجديدة، التي توقعوا أن يكون لها عواقب وخيمة على صناعتهم التي تأسست بعد جهد كبير في العقود الثلاثة الماضية.
من ضمن هؤلاء الذين لمسوا المخاطر منذ البداية “ليو باكمان”، رئيس وأحد مؤسسي معهد إسرائيل للابتكار، وهي منظمة غير ربحية تعمل بوصفها حاضنة لـ2500 شركة ناشئة، حيث قال: “في اليوم التالي للانتخابات الأخيرة (1 نوفمبر 2022)، تولَّد لدينا شعور بأن الحكومة الكائنة هنا منذ 50 عاما استولت عليها فجأة جماعة متعطشة لقلب الموازين ستأخذنا إلى أماكن بعيدة عن المبادئ التي تستند إليها دولة إسرائيل، وأبعد ما يكون عن الثقافة التي يقوم عليها قطاع التكنولوجيا”.
بطبيعة الحال، يحتاج المستثمرون الذين يتطلَّعون إلى المستقبل إلى ضمان عوائد مالية لاستثماراتهم، وهو ما يأتي من الشعور بالثقة فيما يسمى بالنظام الإسرائيلي الليبرالي، وفي بيئة آمنة للاستثمار يكفلها استقرار قانوني، وعدا ذلك، يخشى المستثمرون من الوقوع تحت سوط حكومة لا يمكن للمحاكم كبح جماحها.
نتيجة لهذه الأجواء الضبابية، بدأ هروب الشركات متعددة الجنسيات التي تعمل في مجال التكنولوجيا داخل إسرائيل بالتزامن مع وصول حكومة نتنياهو الحالية، فبعد مرور شهر واحد على إعلانه تمرير الإصلاحات المزعومة، قررت شركة “بابايا جلوبال” التي تعمل في مجال التوظيف من جميع أنحاء العالم وتقدر قيمتها بـ3.7 مليارات دولار سحب جميع أموالها من إسرائيل التي يعمل بها 500 شخص لصالح الشركة.
وقد اتخذت القرار نفسه شركة “ويز” (Wiz) التي تعمل في مجال الأمن السيبراني ومقرها الولايات المتحدة، إذ اختار مسؤولو الشرطة النأي بأنفسهم عن دولة الاحتلال، وفي فبراير/ شباط الماضي سحبت الشركة عشرات الملايين من الدولارات من إسرائيل.
وقد قال الشريك المؤسس للشركة “عساف رابابورت” لصحيفة تايمز أوف إسرائيل: نظرا لانعدام اليقين بشأن استقلالية المؤسسات في الكيان الاحتلالي “الإسرائيلي”، وبعد تقييم حاد للمخاطر في الوضع الحالي، سنحتفظ بأموالنا في البنوك الأميركية.
مع مرور الوقت، أخذت الأمور في التصدُّع أكثر حتى كشفت الإحصائيات مؤخرًا تسارعًا رهيبًا في الخطوات التي تتخذها الشركات والمستثمرون في دولة الاحتلال بسبب الإصلاح القضائي المخطط له.
وقد بيَّن استطلاع رأي قامت به منظمة “ستارت-أب نيشن سنترال” (Start-Up Nation Central) التي تروج للتكنولوجيا الإسرائيلية في الخارج أن نحو 70% من الشركات الناشئة حوَّلت أموالها أو جزءا منها إلى خارج الكيان، وكشف الاستطلاع أن هذه الشركات أخذت عدة تدابير فعالة مالية وقانونية تشمل نقل الأرصدة النقدية إلى الخارج، وتغيير مكان تسجيل الشركة، ونقل الموظفين أو فصلهم.
المصدر : منصة “ميدان” (بتصرف)