من مقاصد الصيام 2| اقتصاد وترشيد للاستهلاك

شرع الله تعالى صوم شهر رمضان لحكم ومقاصد تجمع بين ماهو تربوي ونفسي واجتماعي واقتصادي وصحي. وكل ذلك لمصلحة الصائم في الدنيا والأخرة. ولذلك حث القرآن والسنة النبوية الشريفة على اغتنام ما في هذا الشهر الفضيل من مزايا وخصائص لا تتأتى في غيره من الشهور.
وواحد من مقاصد وحكم الصيام؛ ترشيد الاستهلاك بالتوسط في الانفاق والاعتدال في المشتريات، وفي مقابل الجود والصدقة وإكرام الفقراء والمساكين، ومن جهة أخرى تفكيك سلسلة الاحتكارات والمضاربات.
وهذه مقاصد وفوائد ظاهرها اقتصادي وعمقها إنساني ، فهل يحرص المجتمع بالفعل على تحقيق هذه الغايات؟ وما هو حال الاقتصاد في هذا الشهر؟ وكيف يمكن ترشيد الاستهلاك رغم التحديات التي يطرحها اقتصاد السوق وشراهة التسوق؟
اقتصاد رمضان
يلاحظ قبل حلول شهر رمضان وفي أثنائه زيادة الطلب على المواد الاستهلاكية، وهذا ليس مجرد انطباع، بل هو ملاحظة ظاهرة للعيان مسنودة بتقارير للمندوبية السامية للتخطيط، فعلى سبيل المثال، لاحظت المندوبية زيادة كبيرة في إنفاق الأسر على المواد الغذائية خلال رمضان 2024.
وارتفع حجم الانفاق حسب المندوبية في شهر رمضان من السنة المنصرم بنسبة 17.8% مقارنة ببقية أشهر السنة، مع ملاحظاتها وجود تفاوت بين المناطق الحضرية والقروية، حيث سجلت المدن زيادة قدرها 15.4% مقارنة بـ4.8% في المناطق القروية.
وإذا كان هذا حال شهر رمضان من السنة الماضية فإنه من المتوقع أن تواجه الأسر المغربية ضغطا مدفوعا بموجة الغلاء المستدام الذي يشهده المغرب منذ 2022، وتبرز مؤشراته في غلاء اللحوم والبيض والأسماك ومستلزمات إعداد الوصفات الغذائية التقليدية..
ولأن رمضان لا يرتبط فقط المنتجات الغذائية بحيث أنه يمتد إلى علاقات اجتماعية منها صلة الرحم فإن ذلك ينعكس على ارتفاع في الإنفاق في قطاعات أخرى مثل النقل، الذي يشهد زيادة في الاستهلاك بنسبة 61.9%، والعلاجات الطبية بنسبة 28%.
سلوكيات اجتماعية
يرجع الباحث الاقتصادي ياسين عليا ارتفاع الإنفاق بشكل كبير خلال أشهر شعبان، رمضان، وشوال، إلى الاستعدادات قبل رمضان والاستهلاك المكثف خلاله وبعده، ويرى أن ذلك يؤدي إلى زيادة كبيرة في الأسعار وانتشار سلوكيات مثل الاحتكار والتواطؤ الضمني بين الفاعلين الاقتصاديين.
ويؤكد عليا خلال برنامج “إيكو ترند”، الذي يبث على منصات صحيفة “صوت المغرب” أن هذا الارتفاع في الأسعار يرتبط بشكل وثيق بالزيادة في الإنفاق الذي يحدث خلال شهري شعبان ورمضان، والتي تستمر لفترة قصيرة بعد رمضان.
بدوره يلاحظ عبد الرزاق الهيري، مدير مختبر التحليلات الاقتصادية بجامعة فاس، في تصريح صحفي، أن ارتفاع نفقات الأسر على الاستهلاك خلال هذه الفترة، مرتبطة بعاداتها التقليدية خلال شهر رمضان، مما يؤثر سلباً على قدرتها على الادخار.
وكالة مستقلة
وفي غمار هذه التحديات، تحاول جمعيات حماية المستهلك التعامل مع هذا الوضع الضاغط على ميزانية الأسرة عبر الترافع المدني، وفي هذا الشأن، اقترحت الجامعة المغربية لحقوق المستهلك إنشاء وكالة مستقلة حتى لا تكون مراقبة السلطات رهينة بحملات موسمية خلال شهر رمضان.
حتى أن الجامعة تقترح التركيز على نقاط البيع بالجملة والتقسيط، مع دعوتها للمستهلك المغربي إلى عقلنة عمليات الشراء، التي هي من مقاصد هذا الشهر، حتى لا يسقط في مظاهر التخاطف والاقتناء الزائد عن الحاجة، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار.
وبما أن الاستهلاك المفرط مرتبط عند المغاربة بعادات اجتماعية وتقليدية تبعدها عن المقصد الأساسي، من جهة، وتدفع إلى زيادة الاستهلاك من جهة أخرى، فإن الجامعة المغربية لحماية المستهلك دعت الأسر المغربية إلى القطع مع مظاهر الاستهلاك المفرط خلال رمضان.
الاستهلاك المنفلت
وفي هذا يقول الدكتور سمير بودينار في مقال بعنوان “رمضان والاستهلاك في حال الاستثناء”: “ليكن رمضان إذن، وهو شهر القرآن، مناسبة لترويض النفس على لجم شهوات الاستهلاك المنفلتة”.
ويشدد على أن “شهر للصيام بما يعنيه من التزام أخلاق التقلل من الطعام والشراب، والاستغناء عن زوائد المتع والسلع. تماما كما يرمز إليه الصيام في كل الثقافات. ألم يصم غاندي 21 يوما متواصلة للتحسيس بأوضاع الفقراء في الهند؟!”.
وبالتالي، فإن الظاهر هو أن عادات الاستهلاك تنعكس على زيادة الطلب على المواد في شهر الصيام، مما يزيد من معاناة الأسر ويجبر الكثير منها على الاقتراض، بسبب تراجع القدرة على الادخار أو تمويل الاحتياجات بشكل متوازن، رغم أن في ترشيد الاستهلاك فرصة للبعد عن القروض والضائقات.