فلسفة الصوم ـ عثمان كضوار
يعتبر الصيام من الممارسات البشرية القديمة التي التصقت بالعديد من الديانات كاليهودية والهندوسية والبوذية والمسيحية، وقد كان هذا الارتباط ممزوجا بتمثلات ضيقة لمفهوم الصيام في أبعاده وفلسفته، لذلك نجد تلكم الديانات قد اختلفت من حيث ممارستها لهذه الشعيرة التعبدية، بين التقليل من تناول أنواع معينة من الطعام أو الامتناع عنها، وبين الامتناع عن تناول اللحوم أو التقليل منها، ومنها من جسدته في الكف عن الكلام مدة معينة لأغراض منها ” الرغبة الشديدة في التقرب إلى الخالق وترقية النفس، وتعويد الجسد عن الصبر، أو معاقبته على ارتكاب الذنوب والتكفير عن الخطايا، والإعلان عن الحزن….”1.
بينما في فلسفة الدين الإسلامي نجد هذا الركن الأعظم يتخذ مكانا شاسعا ومفهوما أكثر اتساعا من ذي قبل، ليحقق مقاصد تتمثل بالأساس في ” رفع الدرجات وتكفير الخطيئات، وكسر الشهوات وتكثير الصدقات وتوفير الطاعات، وشكر عالم الخفيات والانزجار عن خواطر المعاصي والمخالفات “2
وحتى يحقق العبد ما سلف ذكره من الأهداف التي أشار إليها العز بن عبد السلام رحمه الله وغيره من العلماء اعتمادا على النصوص القرآنية والحديثية، لا بد وأن يفعل العبد من خلال ممارسته لهذا الركن على الوجه المطلوب، على اعتبار أن الصوم في عمومه يحتم ” الامتناع والإمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص في زمان مخصوص ” 3
إن الحديث عن شعيرة الصيام من حيث عائده النفعي على الصائمين يحتاج إلى مقاربة شمولية مركزها المكلف على كونه المسؤول عن درجة تفعيل مقاصد الصيام أو إهمالها .
إن غياب الرؤية المقاصدية للصوم لدى العديد من المكلفين يؤدي إلى خلق إيمان ساذج مهمل للعقل في التدبر واستحضار كينونة التعبد خلال شهر رمضان، بحيث لا يتم التفاعل معه إلا في حدود ضيقة، غير مبالين بما يحققه الصوم من غايات سامية على المستوى الروحي الفردي، أو على المستوى الاجتماعي بحيث تتحقق العدالة الاجتماعية بنسب متفاوتة بين الأفراد، من خلال السعي إلى القيام بمبادرات تضامنية ترمز إلى ما يمثله هذا الركن العظيم من مقاصد غاية في الأهمية .
إن هذا الإحساس لا يمكن أن ينبع من المرء إلا إذا استشعر بحقيقة الإيمان، الذي يستند في قوامه على التفكير السليم في نظرته إلى الصيام كعملية تقتضي التحمل في الامتناع عن الملذات استجابة للنداء الرباني .
فإذا كان شهر رمضان يمثل محطة إيمانية وفرصة سانحة في أن يستدرك العبد ما فاته من ثواب، فذلك يعني أن يكون على علم تام بمستلزمات هذه المحطة من حيث الفهم التام والعمل الجاد دون تعسف على النصوص أو فهمها بما يعود عليها بالإبطال، لتكون النتيجة عكس مراد الشارع .
لقد بات من الضروري إعادة النظر في فلسفة الصوم على المستوى الذي نلمسه، حيث بعد المسافة بين الصوم والإيمان الحقيقي الذي لا يفصل الروح عن المادة – الجسد- بل يلعب دورا محوريا في جعل الجسد يتعالى في اتصاله بالروح فنجد الصائم ” يسعد بتمكنه من التغلب على استبداد النفس، ما يحقق المقصد الأساس في الإسلام، ممثلا في الرغبة الواعية للاستسلام للخالق عز وجل من حيث المعرفة بمقاصد العبادات….ولا شك في أن هذا الفهم يؤسس لتصور أخلاقي للجسد “4.
فالصيام كعملية تعبدية تخلق تفاعلا بين الروح والجسد من زاوية الارتقاء المعنوي الذي يدفع المرء إلى مزيد من الاجتهاد بعدما إنهاء فترة الصيام، مستشعرا بالمسؤولية الملقاة على عاتقه في علاقته بربه، محققا بذلك مفهوم التقوى الذي جاء الصيام يؤسسه إلى جانب باقي الشعائر التعبدية من منطلق قوله تعالى : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) ” – سورة البقرة الآية 183- .
فالصيام وسيلة لتحقيق التقوى في القلوب باتقاء الأكل والشرب وجميع الملذات خلال مدة زمنية معينة فينقص اندفاعه تجاه اللذات الشهوية، ويشعر في المقابل بافتقاره إلى الله ، قال ولي الله الدهلوي “ولما كانت البهيمية الشديدة مانعة عن ظهور أحكام الملكية، وجب الاعتناء بقهرها، ولما كان سبب شدتها وتراكم طبقاتها وغزارتها والأكل والشرب، والانهماك في اللذات الشهوية، فإنه يفعل ما لا يفعله الأكل الرغد، وجب أن طريق القهر تقليل هذه الأسباب، ولذلك اتفق جميع من يريدون ظهور أحكام الملكية على تقليلها ونقصها مع اختلاف مذاهبهم وتباعد أقطارهم “5
فإذن فلسفة الصيام تنسجم مع متطلبات الجسد بقدر انسجامها مع حاجيات الروح، فيسمو الإنسان عن المستوى البهيمي بكبح شهوته وتقييدها بإخضاعها للرقابة الإلهية، حيث يعتبر الصيام إحدى خصائصه كما جاء ذلك مصرح به إيماء في قوله صلى الله عليه وسلم :” قال الله: كلُّ عملِ ابن آدمَ له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به “6 ، فالحديث يتضمن فضل الصيام على صاحبه لما يحتويه من أسرار تربط العبد بخالقه، ليكون ذلك مدعاة للمرء في أن يستحضر قواعد الصيام بكل عناية رغبة في الاستجابة، وإن كانت جميع العبادات تقتضي ذلك فقد نال الصيام حظا أوفر باعتبار خصوصيته ودرجة ما يحتويه من تكلف.
لائحة المصادر والمراجع :
1 – العبادات في الأديان السماوية : لعبد الرزاق رحيم صلال ص 101 ،ط 1،2000م .
2 – مقاصد الصوم : للعز بنعبد السلام،ص 10،ط 1 ، 1992م.
3 – الصوم المقبول : لمحمد السيد طنطاوي، ص 8، 1995م
4 – مقاربة مقاصدية لشعيرة الصوم في إطار فلسفة الدين : لبشير خليفي،ص 65، إسلامية المعرفة،العدد 90،2017م.
5 – حجة الله البالغة : لولي الله الدهلوي، ص 85.
6 – رواه البخاري 2/ 673 (1805)،ومسلم 2/ 806 (1151)