طوفان الأقصى يهزم السردية الصهيونية – عبدالهادي باباخويا
استيقظت إسرائيل ومعها العالم أجمع صبيحة يوم 7 أكتوبر 2023، على ملحمة فلسطينية خالصة، تمثلت في اقتحام بطولي للمقاومة الغزاوية لجزء من أرض فلسطين المسلوبة، إعلانا أن الحق الفلسطيني لم يسقط بعد رغم توالي السنين، وأن إرادة الحرية والإنتصار عند شعب فلسطين، أقوى من أجندة الكيان الصهيوني وعناصر استمراره الداخلية والخارجية. ومُوقعا على بداية مرحلة جديدة من تاريخ الصراع بين الحق المطلق والشر المطلق، في أفق التحرير الشامل للأرض والإنسان والمنطقة.
وتبقى من أهم الضربات التي وجهها طوفان الأقصى للكيان الصهيوني الغاصب، تحويل سرديته الباطلة في تبرير احتلاله واغتصابه وجرائمه، والتي هيمنت على الساحة العالمية، من وسيلة ضغط وهجوم وإيلام للمقاومة والشعوب الداعمة لها، إلى عبء فكري ثقيل وتركة تاريخية مشلولة الحجج والبراهين، وذكرى حزينة لكل من عمل بها أو دافع عنها أو سكت عن فضحها، من نخب سياسية ومجموعات مصالح نافذة، وقادة رأي ورجال إعلام ومؤسسات ضاغطة..
فما هي أسس وعناصر هذه السردية..؟ وما هي مخاطرها على فلسطين وشعبها المقاوم..؟ وكيف هزم طوفان الأقصى هذه السردية وأبطل مفعولها..؟
أولا: مرتكزات السردية الصهيونية:
لقد قامت السردية الصهيونية كأساس للمشروع الصهيوني في المنطقة على عدة أسس ومرتكزات، أختار منها أربعة فقط:
أ- فكرة المظلومية المستندة بالأساس إلى حادثة الهولوكوست، التي تمثل جوهر الهوية اليهودية المعاصرة، والمرآة التي انعكست عليها المحنة الحديثة لرهاب اليهود، والأساس الأيديولوجي الذي يتم به تمييز من يضطهد اليهود حاليا، كما تستند إلى مفاهيم الأمن والدفاع عن النفس في وجه التهديدات الإقليمية..
ب- التنكر للحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني بناءً على قاعدة أن الأوطان تبنى بالذاكرة كما تبنى بالنسيان، “فعلى الشعب الفلسطيني نسيان شيء إسمه فلسطين نهائيا، كما نسي المسلمون شيئا كان يسمى الأندلس، فكما فعل الإسبان الذين طردوا العرب بعد ثمانية قرون من وجودهم، تمكن اليهود أيضا من استعادة أرضهم بعد طول مدة ناهزت 1200 سنة” -وزيرة التربية والتعليم الإسرائيلية ليمور ليفنات-
ج- تصوير فلسطين والعرب على أنهم همجيون لا يستحقون الحياة، ونزع صفة الآدمية عنهم وأن تخليص العالم منهم، هي مهمة نبيلة يضطلع بها جيش الكيان الصهيوني، لتبرير ما هو غير مبرر في سياق الحروب، مثل قطع المياه والكهرباء ووقف فرص الحصول على الطعام والدواء، وانتهاك قواعد القانون الدولي والإنساني.
د- القوة العسكرية هي الحل لحسم الصراع، حيث أن الدعاية الصهيونية تأسست في ظل الرأسمالية الإستعمارية المستندة إلى قوة عسكرية، صورت نفسها لفترة طويلة أنها القوة التي لا تقهر. وتم وصف المقاومة والدول الداعمة لها بالإرهاب أو بمحور الشر، لتحويل فكرة الإحتلال الإستعماري الممتد إلى هجوم 7 أكتوبر، وتجميد اتفاقيات وقرارات دولية يفترض الإلتزام بها، إلى تصفية للقضية وتحميل الضحايا مسؤولية المعاناة، وحصر نطاق القانون الإنساني “من إنسانية عامة إلى إنسانية انتقائية”.
ثانيا: – مخاطر السردية الصهيونية:
ساهمت هذه السردية من خلال سيطرة اللوبي الصهيوني على الفضاء الإعلامي الغربي والعالمي، في وصم وتشويه المقاومة الفلسطينية في خياراتها وأهدافها، وفي تصوير الشعب الفلسطيني كقطيع من الحيوانات، يحتاج إلى ترويض وإذا استعصى الأمر إلى إبادته..
لقد انحاز الغرب لهذه السردية التي غذت الساحة العالمية، بمفاهيم خاطئة وتصورات باطلة عن حقيقة الصراع، وجذوره التاريخية وأسبابه الحضارية، واستطاعت أن تجعل الفلسطينيين هم المعتدين والإسرائيليين هم الضحايا. ومخاطر هذه السردية لم تقف عند السيطرة على الخطاب الإعلامي، وفي التأثير على الرأي العام فقط، بل أثرت أيضا في القرارات السياسية للدول الكبرى وكذا النظم الدولية الحاكمة، فتم تشريع قوانين وإقرار عقوبات ضد الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، بل تم تبرير كل جرائم الإحتلال بمقولة “إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها”.
وفي معركة طوفان الأقصى تأسست السردية الصهيونية، على الربط بين حماس والقاعدة وداعش، وتشبيه مقاومة حماس بأفعال داعش المعروفة. ورغم اكتشاف عدم صحة الأساس الذي تم بناء سردية دعشنة حماس، فقد اختارت الدول الغربية بقيادة أمريكا، الدعم المطلق لإسرائيل في معركتها الوجودية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، وتم وصف حماس بالنازية الجديدة.
ثالثا: – كيف هزم طوفان الأقصى السردية الصهيونية..؟
مع طوفان الأقصى برزت من جديد السردية الفلسطينية، كحقائق ووقائع ذات مصداقية، واحتلت مساحة كبيرة في تشكيل الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، وفي توجيه السياسات واتخاذ المواقف، وقلبت بذلك موازين تفوق السردية الصهيونية، التي استطاعت كسب التعاطف والدعم العالمي لفترة طويلة.
فطوفان الأقصى أحيى من جديد نكبة 1948 وماتبعها من تهجير وتشريد، وأن مقولة “فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” هي أسطورة لا تصمد أمام صمود الشعب الفلسطيني، ومطالبه بحق العودة وكل الحقوق المدنية والإنسانية، وتثبته بالأرض والمقدسات.
كما أن طوفان الأقصى نجح في كسب الزخم الإعلامي والتأييد الشعبي للسردية الفلسطينية، وتعزيز الوعي العالمي بالإنتهاكات الصهيونية، وممارسات الكيان في حق الشعب الفلسطيني، ويتم ذلك بالصوت والصورة وعلى الهواء مباشرة. بما عزز الدعم الشعبي والدولي للرواية الفلسطينية، الذي كان من نتائجه تزايد الدول المعترفة بدولة فلسطين، والمظاهرات الدولية في بلدان كانت وما تزال معاقل لمؤيدي السردية الصهيونية، والحراك الطلابي الذي فضح المؤسسات الجامعية في أوروبا وأمريكا.
لقد دعم طوفان الأقصى السردية الفلسطينية، وساهم في تفوقها وحصارها للسردية الصهيونية، عبر قوة الحقائق ومصداقيتها وصورة الأحداث والوقائع وتأثيراتها، والذي أسفر عن تضييق واضح على الإحتلال الصهيوني، وانحدار في مكانته العالمية التي كان يتمتع بها، وتزايد عدد الدول التي بدأت في قطع علاقتها الدبلوماسية مع هذا الكيان، والذي يؤكد المراقبون أنه يخسر مع مرور الوقت “حرب الدعاية وكذلك صورة الضحية”.
وفي المحصلة، تبقى السردية الصهيونية كرواية يقدمها الإسرائيليون، نموذج لأهمية السرديات كمصدر للمعلومات ولكيفيه التعامل مع الحقائق المتباينة ولفهم الواقع، بوصف السردية السياسية وسيلة تعبير عن الذات والآخرين، وعنصرا مهما في تشكيل الهوية.